الحمد للّه الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، قيّمًا لينذر بأسًا شديدًا من لدنه ويبشّر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أنّ لهم أجرًا حسنًا. والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد أشرف المرسلين وخاتم النبيّين وحبيب ربّ العالمين وعلى آله وصحبه الطيّبين الطاهرين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فيقول اللّه تعالى في القرءان الكريم: ﴿يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)﴾ سورة غافر.
ليعلم أن من أعظم الموبقات وأكبر المفاسد وأفحش الآثام التي انتشرت في زماننا ومجتمعنا اليوم الظلم والعياذ باللّه تعالى فهو ذنب مُشين وعار مبين يهوي بصاحبه إلى الحضيض ويعرّضه لسخط اللّه العظيم وعقوبته ويغرس له في نفوس الناس العداوة والبغضاء ويحملهم على الحذر منه والابتعاد عنه وعن أمثاله كما يحذر أحدهم الذئاب والأفاعي، فالظالم نادم وإن مدحه السفلة والمظلوم الصابر سالم وإن ذمّه القريب أو البعيد ومن أراد سلامة دينه والفوز برضا ربّه جلّ وعزّ التزم أوامر اللّه التي بيّنها الأنبياء وأوضحها المرسلون واجتنب نواهيه فأعطى لكل ذي حقّ حقّه ولم يحمله حبّ الدنيا على الظلم والبغي كحال كثير من الناس حملهم حبّ الدنيا على الفساد والضلال وسلوك سبل الغواية والاحتيال المذموم بغية الوصول لمآرب دنيئة ومقاصد خسيسة فظلموا وباعوا أنفسهم للشيطان وغرّهم الأمل فأغرقهم الظلم في حفر الخسران وأوثقهم الذنب بحبال الندامة وما ذاك إلا بانحرافهم عن تعاليم سيّد المرسلين سيّدنا محمّد رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وما بلّغه عن ربّه تبارك وتعالى فقد نهى ربّنا عزّ وجلّ عن الظلم وأمر بالحسنى والعدل فقال في كتابه المبين: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)﴾ سورة النحل.
فقد تضمّن المعنى الإجمالي لهذه الآية المباركة الأمر بالعدل وهو إعطاء كل ذي حقّ حقّه والنهي عن الظلم وهو مخالفة أمر ونهي من له الأمر والنهي وقيل هو التصرف في ملك الغير بغير إذنه وربما تعدّى ضرر الظلم إلى الناس كمن يقتل النفس التي حرّم اللّه إلا بالحق أو يأكل أموالهم بالباطل كما هو حال كثير من الناس فترى من يمنع اليتيم حقّه ويقهره لضعفه أو يظلم النساء فيمنعهن إرثهن وحقّهن يحمله على ذلك حبّ التسلط والظهور فيخوض لجج الظُلم والظُلمات وينسى ما توعّد اللّه به الظالمين من الخزي والنكال ويغفل عن ذكر الموت والقبر والقيامة وربّما لبّس الشيطان على بعضهم فركبوا القبائح وظلموا ظلمًا كبيرًا وظنّوا أنهم يتقرّبون بذلك إلى اللّه تعالى فساقهم إبليس اللعين إلى التباب والوبال وظنّوا بأنفسهم الرقي والكمال فأشبه حالهم حال من قال ربنا تعالى فيهم: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11)﴾ سورة البقرة.
وربما انحصر ضرر الظلم في النفس الظالمة واقتصر شرّه على صاحبه دون غيره كمن يترك الصلاة أو يشرب الخمر أو يتعاطى غير ذلك من الذنوب التي توبق نفسه وتوقعه في شراك جُرمه من غير أن يتعرّض لغيره من الناس فيكون بذلك مخالفًا لأمر ونهي من له الأمر والنهي وهو اللّه تعالى وحده فربّنا تقدّست أسماؤه هو الآمر المطلق فلا آمر له وهو الناهي المطلق فلا ناهي له وقد جاء في الحديث الذي رواه مسلم من طريق أبي ذر رضي اللّه عنه عن نبيّ اللّه صلى الله عليه وسلم فيما يرويه عن ربّه تبارك وتعالى أن اللّه تعالى قال: “يا عبادي إني حرّمتُ الظلمَ على نفسي وجعلتُهُ بينَكم محرَّمًا فلا تَظالمُوا“.
ومعنى “حرّمتُ الظلمَ على نفسي” نزهت نفسي عن الظلم فالظلم مستحيل على اللّه ولا يُتصور في حقّه تعالى فهو مالك الملك فعَّال لما يريد يحكم في خلقه بما يشاء لا يُسأل عمّا يفعل وهم يُسألون، أما العباد فالظلم موجود في كثير منهم فكم وكم من الناس غرقوا في أوحال الشرور وتمادوا في ظلم بعد ظلم كأنهم ما سمعوا ما جاء في كتاب اللّه وسنّة نبيّه صلى الله عليه وسلم من التحذير البليغ من الظلم والتنفير منه.
قال تعالى: ﴿يَوْمَ لا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)﴾ سورة غافر، وقال أيضًا: ﴿وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ ( 227)﴾ سورة الشعراء.
وعن جابر رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: قال: “اتقوا الظلمَ فإنّ الظلمَ ظلماتٌ يومَ القيامةِ” رواه مسلم.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: “اتقوا الظلمَ” أي اجتنبوا الظلم وهو شامل لظلم النفس وذلك بمنع أصحاب الحقوق حقوقهم وإعانة النفس على معصية اللّه وإطاعة هواها فيما حرّم ربّنا تقدس اسمه وقوله: “فإن الظلم ظلمات يوم القيامة“، قال النووي: قال القاضي عياض: قيل هو على ظاهره فيكون ظلمات على صاحبه لا يهتدي يوم القيامة سبيلًا.
ويحتمل أن الظلم هنا الشدائد كما فسّروا قوله تعالى: ﴿قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ﴾ سورة الأنعام/63، أي شدائدهما.
وقال الحافظ ابن حجر رحمه اللّه في الفتح: وإنما ينشأ الظلم عن ظلمة القلب لأنه لو استنار بنور الهدى لاعتبر فإذا سعى المؤمنون بنورهم الذي حصل لهم بسبب التقوى اكتنفت ظلماتُ الظلمِ الظالمَ حيث لا يُغني عنه ظلمه شيئًا.
فالظالم ينتظر العقوبة والمظلوم الصابر ينتظر المثوبة وشتان بينهما فعن أبي موسى رضي اللّه عنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: “إنَّ اللّه ليُملي للظالم حتّى إذا أخذه لم يفلته” ثم قرأ ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)﴾ سورة هود، متفق عليه، ومعناه أن اللّه يمهل الظالم فإذا أهلكه لم يُفلِتْهُ أي لم يرفع عنه الهلاك، ولربما عجَّل اللّه العقاب للظالم في الدنيا قبل الآخرة واستجاب فيه دعوة المظلومين فعن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن النبيّ صلى الله عليه وسلم بعث معاذًا رضي اللّه عنه إلى اليمن فقال: “اتق دعوة المظلوم فإنها ليس بينها وبين اللّه حجاب” رواه البخاري والمراد أنها مقبولة لا تُرد وقد جاء في صحيح مسلم وغيره أن النبيّ صلى الله عليه وسلم استعاذ باللّه من دعوة المظلوم وجاء في بعض الروايات “اتق دعوة المظلوم فإنها مجابة ولو كانت من كافر“.
فكم من مظلوم وطّد نفسه على الصبر واستعان باللّه فعوّضه اللّه النصر والرضا والأجر، فقد كاد إخوة يوسف ليوسف عليه السلام وأخذتهم العزّة بالإثم فأرادوا قتله ثم ألقوه في الجبّ وزيّن لهم الشيطان أعمالهم فنجّاه اللّه من الغم وأتى بهم إلى يوسف يطلبون منه المعونة وهو على خزائن الأرض وكم من ظالم جانب العدل وحالف الشرّ فَرَغِم أنفه وذاق وبال أمره والتاريخ مشحون بالأمثلة المحفوظة التي تكلّ بتسطيرها الأقلام وتطول بسردها المقالات، فالعاقل من حفظ نفسه في الدنيا قبل أن يفضي إلى يوم لا درهم فيه ولا دينار إنما الحسنات والسيئات، فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: قال: “من كانت له مظلمةٌ لأخيه من عِرضه أو من شىء فليتحلَّلْه منهُ اليومَ قبلَ أن لا يكونَ دينارٌ ولا درهمٌ إن كانَ له عمل صالح أُخذَ منه بقَدر مظلمته وإن لم تكن له حسناتٌ أُخذَ من سيئاتِ صاحبه فحُملَ عليه” رواه البخاري.
فجديرٌ بمن سمع أو قرأ هذا أن يعتبر ويتعظ ويكف عن الظلم ويقيم ميزان العدل ولو على نفسه فإنّ الظلم هلاك عظيم وشرّ مستطير والعدل منجاةٌ ونور فطوبى لمن عفّ عن الإثم ومنع نفسه من الظلم ولم يسع لنيل ما لا يستحق ولم يصلح دنياه بفساد دينه فكم من ظالم تحت التراب ندم حيث لم ينفع الندم وكم من مظلوم في الدنيا سعيد في الآخرة فلقد قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: “ألا يا رُبَّ مُكرم لنفسه وهو لها مُهين ألا يا رُبَّ مُهين لنفسه وهو لها مُكرم” رواه البيهقي فمن ظن أنه يُكرم نفسه بالظلم فهو مهين لها في الحقيقة وسيرى عاقبة ذلك يوم القيامة ومن ظُلم فصبر للّه ولم يُخرجه البلاء عن دائرة الصبر والانقياد للشرع فقد أكرم نفسه وسيرى عاقبة ذلك يوم القيامة. والموفَّق من وفّقه اللّه.
واللّه تعالى أعلم وأحكم.█