الحمد للّه ربّ العالمين والصلاة والسلام على النبيّ الأمين سيّدنا وحبيبنا محمّد بن عبد الله وعلى آله وصحبه ومن سار على نهجه إلى يوم الدين.
أما بعد فإن مما يجب الإيمان به الصراط وقد وردت به الأخبار الصحيحة واستفاضت. وهو جسر يُمَدّ على ظهر جهنم يَرِدُهُ الناس إما ورود دخول وإما ورود عبور، أحد طرفيه في الأرض المبدلة والطرف الآخر في ما يلي الجنّة بعد النار، وهو دَحْضٌ مَزَلّةٌ كما ورد في صفته أي أملس تزلّ منه الأقدام، وورد أيضًا أنّه أحدّ من السّيف وأدقّ من الشّعرة كما روى مسلم عن أبي سعيد الخدريّ رضي اللّه عنه أنه قال: “بلغني أنّه أدقّ من الشّعرة، وأحدّ من السّيف” ولم يرد هذا مرفوعًا إلى رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، وليس المراد ظاهره بل هو عريض وإنّما المراد بذلك أنّ خطره عظيم، فإنّ يُسْر الجواز عليه وعُسره على قدر الطاعات والمعاصي ولا يعلم حدود ذلك إلا اللّه تعالى.
قال اللّه تعالى: ﴿فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70) وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَّنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)﴾ سورة مريم، والورود المذكور في الآية هو على وجهين: ورودُ دخول وورودُ عبور، فورود الدخول للكفار ولبعض عصاة المسلمين، أي يزِلُّون منه إلى جهنم، وورود العبور للأتقياء، فمنهم من يمرّ كالبرق الخاطف ومنهم من يمرّ كطرفة عين ومنهم غير ذلك كما ورد في الحديث. روى مسلم في صحيحه عن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال في حديث طويل: “ثم يُضرَبُ الجسرُ على جهنّم وتَحِلُّ الشفاعةُ ويقولون: اللهم سلِّم سلِّم” قيل: يا رسول اللّه وما الجسر؟ قال: “دَحْضٌ مَزَلّة فيه خطاطيفُ وكلاليبُ وحَسَكٌ” والخطاطيف جمع خُطاف وهو الحديدة المعوجة يختطف بها الشىء، والكلاليب جمع كَلُّوب وهو حديدة معقوفة الرأس يُعلّق فيها اللحم وتُرسل في التنور، والحَسَك جمع حَسَكة وهي شَوكة صُلْبة. ثم قال عليه الصلاة والسلام: “فيمُرُّ المؤمنون كطَرْفِ العين وكالبرق وكالريح وكالطير وكأجاويد الخيل والرِّكاب فناجٍ مُسَلَّمٌ ومَخْدوشٌ مُرْسَلٌ ومَكدوسٌ في نار جهنّم” ومعناه أن الناس يكونون على ثلاثة أقسام: ناجٍ مُسَلَّم أي يسلم من النار فلا يناله شىء أصلًا، ومخدوش مرسل أي يُخدش بالكلُّوب فيُرسل إلى النار ويكون من عصاة أهل الإيمان فيُعذّب مدة ثم يُطلق من القيد فيخلص من النار، ومكدوس في نار جهنم أي مدفوع من ورَائه فيسقط فيها.
روى مسلم وغيره عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أن النبيّ صلى الله عليه وسلم أخبرهم عن الصراط فقال: “فيمر أوّلكم كالبرق“. قال أبو هريرة: قلتُ: بأبي أنت وأمي أي شىء كمرّ البرق؟ -أي كيف سرعته- قال: “ألم تروا إلى البرق كيف يمرُّ ويرجعُ في طَرْفَة عين، ثم كمَرّ الريح ثم كمَرّ الطير وشَدّ الرجال تجري بهم أعمالُهم، ونبيُّكم قائمٌ على الصراطِ يقولُ: ربّ سلِّم سلِّم حتى تعجز أعمالُ العباد حتى يجيء الرجلُ فلا يستطيعُ السيرَ إلا زحفًا” قال: “وفي حافَتي الصراط كلاليبُ مُعلّقةٌ مأمورةٌ بأخذِ من أُمرتْ به فمخدوشٌ ناجٍ ومكدوسٌ في النار“. ومعنى الحديث أنكم في سرعة السير على حسب المراتب والأعمال، ونبيّكم لكمال شفقته ومزيد عنايته بنا معشر أمته قائم على الصراط لتنجو به أمته من المخاوف وتصرف به عنها أنواع المكاره.
الحوض
والحوض حقّ يجب الإيمان به، وهو مكان واسِعٌ ومَجْمَعٌ مِن الماء كبير أعدّ اللّه تعالى فيه شرابًا لأهل الجنّة يشربون منه قبل دخول الجنّة وبعد مجاوزة الصّراط، فلنبيّنا حوض ترده أمته فقط لا ترده أمم غيره طوله مسيرة شهرٍ وعرضه كذلك، آنيته كعدد نجوم السّماء، شرابه أبيض من اللّبن وأحلى من العسل وأطيب من ريح المسك.
وقد أَعَدّ اللّه لكلّ نبيّ حوضًا تشرب منه أمَّتُهُ وأكبر الأحواض حوض نبيّنا محمّدٍ صلى الله عليه وسلم.
روى البخاري في صحيحه عن عبد اللّه بن عمرو أنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: “حوضي مسيرةُ شهرٍ ماؤه أبيضُ من اللبن وريحُه أطيبُ من المسكِ وكيزانُه كنجوم السماء من شربَ منه فلا يَظْمَأُ أبدًا“.
وفي صحيح مسلم عن أنس بن مالك رضي اللّه عنه أنه قال: بينا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى إغفاءة -أي الحالة التي تعتريه عند الوحي لا النوم- ثم رفع رأسه متبسمًا فقلنا: ما أضحكك يا رسول اللّه؟ قال: “أنزلتْ عليّ آنفًا سورة” فقرأ ” بسم الله الرحمن الرحيم ﴿إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ (3)﴾” سورة الكوثر، ثم قال: “أتدرون ما الكوثر“؟ فقلنا: اللّه ورسوله أعلم، قال: “فإنه نهرٌ وَعَدَنِيه ربي عزّ وجلّ عليه خيرٌ كثيرٌ، هو حوضٌ تَرِدُ عليه أمّتي يوم القيامة آنيتُهُ عددُ النجوم فيُختلجُ العبدُ منهم فأقولُ: ربّ إنه من أمّتي فيقولُ: ما تدري ما أحدثَتْ بعدَك“.
وفي صحيح البخاري عن سهل ابن سعد أنه قال: قال النبيّ صلى الله عليه وسلم: “أنا فَرَطُكُم على الحوضِ فمَن وَرَدَهُ شربَ منه ومَن شربَ منه لم يظمأ بعدَه أبدًا ليَرِدُ عليّ أقوامٌ أعرفُهُم ويعرفوني ثم يُحالُ بيني وبينَهم“، وزاد أبو سعيد الخدريّ فقال: “فأقولُ: إنّهُم منّي فيُقالُ: إنّك لا تدري ما أحدَثوا بعدَك، فأقولُ: سُحْقًا سُحْقًا لمَنْ غيَّر بعدي“.
وفي سنن الترمذي عن سمرة ابن جندب رضي اللّه عنه أنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: “إنّ لكلّ نبيٍّ حوضًا وإنّهم يَتباهَوْن أيُّهم أكثرُ وَاردةً وإنّي أرجو أن أكونَ أكثرَهُم وَاردةً“.
الشفاعة
والشفاعة حق واقع يوم القيامة وهي لغةً سُؤال الخير من الغير للغير، وأما في الآخرة فهي طلب إسقاط العقاب عن قسم ممن يستحق دخول النار من المسلمين، فيَشْفَع النبيُّون والعلماء العاملون والشهداء والملائكة. روى الترمذِي أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: “إن مِن أمّتي مَن يشفعُ للفئام -أي الجماعة من الناس- ومنهم مَن يشفعُ للقبيلة ومنهم مَن يشفعُ للعُصْبة -أي ما بين العشرة إلى الأربعين من الرجال- ومنهم مَنْ يشفعُ للرجلِ حتّى يدخلوا الجنّة” ويشفع نبيّنا صلى الله عليه وسلم لأهل الكبائر من أمَّته أي لقسم منهم فقد جاء في الحديث الصحيح “شَفَاعَتي لأَهْلِ الكبَائرِ مِن أمَّتي” رواه ابن حبّان، وروى ابن ماجه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: “خُيّرتُ بين الشفاعة وبين أن يَدخلَ نصفُ أمّتي الجنّةَ فاخترتُ الشفاعةَ لأنها أعمُّ وأكفَى، أتـرونــهـا لـلـمُـتـقـيـن؟ لا ولكنها للمُذنبين الخَطّائين المُتلوّثين” أي أنّ غير أهل الكبائر ليسوا بحاجة للشفاعة إذ لا عذاب عليهم، وتكون الشفاعة لبعض أهل الكبائر قبل دخولهم النّار ولبعض بعد دخولهم قبل أن تمضي المدة التي يستحقون بمعاصيهم الـمكث بقدرها، وقسم من فساق المسلمين لا يُشفع لهم بل يُعذّبون في النار ثم يخرجون منها بـرحمة اللّه تعالى.
ولا تكون الشفاعة للكفار كما أخبر اللّه تعالى بقوله: ﴿وَلا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضَى﴾ سورة الأنبياء/28، قال ابن عباس: أي لمن ارتضَى الإسلام دينًا.
وأوّل شافع يشفع هو النبيّ صلى الله عليه وسلم ففي حديث البخاري: “ثم يُقال يا محمّدُ ارفع رأسَك، سَلْ تُعطه واشفعْ تُشفّع“.
واللّه تعالى أعلم وأحكم.█