الحمد للّه ربّ العالَمين، وصلّى اللّه وسلّم وبارك على نبيّنا محمّد وعلى آله وأصحابه المطهرين، ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدّين. 

أما بعد فقد روى البخاري وغيره عن زيد بن ثابت رضي اللّه عنه أنه قال: أرسل إليّ أبو بكر رضي اللّه عنه وعنده عمر رضي اللّه عنه، فقال أبو بكر: إن عمر أتاني فقال: إن القتل قد استحرّ يوم اليمامة بقرّاء القرءان، وإني أخشى أن يستحرّ القتل بالقرّاء في المواطن، فيذهب كثير من القرءان، وإني لأرى أن نجمع القرءان، قال أبو بكر: فقلتُ لعمر: كيف أفعل شيئًا لم يفعله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم؟ فقال عمر: هو واللّه خير! فلم يزل عمر يراجعني فيه حتى شرح اللّه لذلك صدري، ورأيت الذي رأى عمر. يقول زيد ابن ثابت: فقال أبو بكر لي: إنك رجل شاب عاقل ولا نتهمك، كنت تكتب الوحي لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فتتبَّع القرءان فاجمعه، فواللّه لو كلّفني نقل جبل من الجبال ما كان أثقل عليّ مما أمرني به من جمع القرءان، قلت: كيف تفعلان شيئًا لم يفعله رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال أبو بكر: هو واللّه خير! فلم أزل أراجعه حتى شرح اللّه صدري للذي شرح اللّه له صدر أبي بكر وعمر، فقمت فتتبَّعت القرءان أجمعه من الرقاع والأكتاف -جمع كتف وهو عظم عريض يكون في أصل كتف الحيوان ينشف ويكتب فيه- والعسب -جريد النخل- وصدور الرجال، حتى وجدت من سورة التوبة آيتين مع خزيمة بن ثابت الأنصاري، لم أجدهما مكتوبتين عند أحد غيره ولكنهما محفوظتين عند غيره من غير كتابة وهما آخر آيتين من سورة التوبة: ﴿لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ (128) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)﴾، وكانت الصحف التي جمع فيها القرءان عند أبي بكر حتى توفّاه اللّه تعالى ثم عند عمر حتى توفّاه اللّه، ثم عند حفصة بنت عمر رضي اللّه عنهم.

وروى البخاري أيضًا عن أنس رضي اللّه عنه أن حذيفة بن اليمان رضي اللّه عنه قدم على عثمان رضي اللّه عنه، وكان يغازي أهل الشام في فتح أرمينية وأذربيجان مع أهل العراق فأفزع حذيفة رضي اللّه عنه اختلافهم في القراءة، فقال حذيفة لعثمان رضي اللّه عنهما: يا أمير المؤمنين! أدرك هذه الأمة قبل أن يختلفوا في الكتاب اختلاف اليهود والنصارى، فأرسل عثمان إلى حفصة رضي اللّه عنهما أن أرسلي إلينا بالصحف ننسخها في المصاحف ثم نردّها إليك، فأرسلت بها حفصة إلى عثمان، فأمر زيد بن ثابت وعبد اللّه بن الزبير وسعيد بن العاص وعبد الرحمن بن الحارث ابن هشام رضي اللّه عنهم، فنسخوها في المصاحف، وقال عثمان رضي اللّه عنه للرهط القرشيين الثلاثة: إذا اختلفتم أنتم وزيد بن ثابت في شىء من القرءان فاكتبوه بلسان قريش، فإنما نزل بلسانهم، ففعلوا حتى إذا نسخوا الصحف في المصاحف ردّ‍ِ عثمان الصحف إلى حفصة، وأرسل إلى كل أفق بمصحف مما نسخوا، وأمر بما سواه من القرءان في كل صحيفة أو مصحف أن يحرق. وعن خارجة بن زيد بن ثابت أنه سمع زيد بن ثابت رضي اللّه عنه قال: لما نسخنا الصحف في المصاحف فقدت آية من سورة الأحزاب كنت كثيرًا أسمع الرسول صلى الله عليه وسلم يقرؤها، لم أجدها مع أحد إلا مع خزيمة الأنصاري -أي لم يجد كتابة تلك الآية إلا مع خزيمة-، وفي رواية: فــالــتـمـسـنـاهـا فوجدناها مع خزيمة الذي جعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم شهادته شهادة رجلين ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ﴾ سورة الأحزاب/23، فألحقناها في سورتها في المصحف. وسبب كون شهادته رضي اللّه عنه بشهادتين ما رواه أبو داود وغيره أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان قد ابتاع فرسًا من أعرابي، فاستتبعه النبيّ صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه، فأسرع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم المشي وأبطأ الأعرابي، فطفق رجال يعترضون الأعرابي، فيساومونه بالفرس ولا يشعرون أن النبيّ صلى الله عليه وسلم ابتاعه، فنادى الأعرابي رسول اللّه صلى الله عليه وسلم، فقال: إن كنت مُبتاعًا هذا الفرس وإلا بِعْتُهُ، فقام النبيّ صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي، فقال: “أو ليس قد ابتعْتُهُ منك؟” فقال الأعرابي: لا، واللّه ما بِعْتُكَهُ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم: “بلى، قد ابتَعْتُهُ منك” فطفق الأعرابي يقول هَلُّمَ شهيدًا -أي شاهدًا-، فقال خزيمة بن ثابت: أنا أشهد أنك قد بايعته، فأقبل النبيّ صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال: “بم تشهد؟”، فقال: بتصديقك يا رسول اللّه فجعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين وهذا من خصائصه رضي اللّه عنه.█