الحمد للّه ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد الأمين وعلى آله وصحبه الطيّبين الطاهرين. 

وبعد إخواني في اللّه، روى الحاكم في كتاب المستدرك بإسناد صحيح عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: “اغتنم خمسًا قبل خمس شبابك قبل هرمك وصحّتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك“. 

ينبغي للإنسان أن يغتنم هذه الأحوال الخمسة قبل أن تفوته، فإنّه بفوت كلّ واحد منها يفوته خيرٌ كثيرٌ، وعليه أن يجعل حياته في الدنيا مزرعةً للآخرة، فكلّما اشتغل فيها بزرع الخير والبرّ بنيّة خالصة للّه تعالى حصد ذلك خيرًا وثوابًا وجزاء حسنًا يوم القيامة، وكلّما تكاسل فيها عن الزّرع لآخرته فاته حصاد ذلك يوم القيامة.

فالعاقل هو الذي يهتمّ بما تضمّنه هذا الحديث بأن يطيع اللّه تبارك وتعالى، فيتعلّم الحلال والحرام ويعمل بما تعلّم بأداء الواجبات واجتناب المحرّمات. ويكون هذا له ذخرًا كبيرًا في الحياة الثانية، الحياة التي بعد الموت. فمن عمل بما ينفعه بعد موته يحظى بجزاء ذلك نعيمًا مقيمًا في الآخرة.

كذلك من اغتنم صحته قبل مرضه في فعل الخيرات يكون جمع خيرًا كثيرًا لا يستطيع أن يفعله في مرضه، لأنّ المرض يمنع الإنسان من أشياء كثيرة كان يستطيع أن يعملها في صحّته.

كذلك العاقل يغتنم شبابه قبل هرمه، فلا ينبغي أن يكون الشابّ غافلًا عمّا يستطيع أن يفعله لآخرته في شبابه قبل أن يدركه الهرم فيعجز عنه.

كما ينبغي للعاقل أن يغتنم غناه قبل فقره، أي أن يعمل الصالحات التي لا يقدر عليها إلا الغنيّ في غناه قبل أن يصيبه الفقر. الغنيّ الذي عنده المال يستطيع أن يعمل لآخرته الشىء العظيم، فينفق على الفقراء والمساكين، وقد يبني مسجدًا للّه تعالى فيكون له صدقةً جاريةً أي دائمةً. ويستطيع أن يصل أرحامه بالإحسان إليهم مما رزقه اللّه، فإذا لم يفعل ذلك حتى أصابه الفقر يندم، يقول يا ليتني عملت كذا وكذا من أعمال البرّ لآخرتي.

أما قوله عليه الصلاة والسلام: “وفراغك قبل شغلك” فمعناه أنّ المسلم ينبغي عليه أيضًا أن يغتنم وقته في عمل البرّ والخير والإحسان عندما يكون عنده فراغٌ، قبل أن يذهب هذا الفراغ وينشغل عنه ويفوته تداركه لأنه لم يعد عنده وقتٌ له.

أكثر الناس يضيّعون هذه النعم الخمس ثم منهم من لا ينتبه لذلك إلا عندما يصير من أهل القبور كما قال سيّدنا عليٌّ رضي اللّه عنه: “الناس نيامٌ فإذا ماتوا انتبهوا” معناه أنّ أكثر الناس نيامٌ، أي غافلون عمّا ينفعهم بعد الموت، ثم بعد الموت أو عند الموت يعرفون  فيندمون. في حال سكرات الموت، عند اليأس من الحياة أو بعد أن يدفنوا يندمون، يقول أحدهم يا ليتني أدّيت ما فرض اللّه عليّ، واجتنبت ما حرّم، هذا معنى قول سيّدنا عليّ رضي اللّه عنه: “الناس نيامٌ فإذا ماتوا انتبهوا“.

وعن عبد اللّه بن عمر رضي اللّه عنهما قال: أخذ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بمنكبي فقال: “كن في الدّنيا كأنّك غريبٌ أو عابرُ سبيل” رواه البخاري. وكان ابن عمر يقول: “إذا أمسيت فلا تنتظر الصباح، وإذا أصبحت فلا تنتظر المساء، وخذ من صحّتك لمرضك، ومن حياتك لموتك“.

وقريب من معنى ذلك ورد حديثٌ آخر وهو قوله عليه الصلاة والسلام: “كم من مستقبل يومًا لا يستكمله” رواه السيوطي، فينبغي أن نشدّ عزائمنا، الرجال منا والنساء، في الدعوة إلى اللّه، ومكافحة المنكر، المنكر في الاعتقاد وهو ما خالف مذهب أهل الحقّ، والمنكر في الأعمال من الأقوال والأفعال.

فمن بذل جهده لإنكار الكفريات الشائعة على اختلاف أنواعها، فله هذا الأمر العظيم، أجر الشهادة، قال رسول اللّه عليه الصلاة والسلام: “المتمسّك بسنّتي عند فساد أمّتي له أجر شهيد” رواه  الطبراني، يعني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بسنّته شريعته أي العقيدة والأحكام، فلا يفوتنّكم هذا الأمر العظيم. العاملون بهذه الوصية النبوية قليلٌ جدًّا في عباد اللّه وأكثر الناس غافلون.

فطوبى لمن عمل بها، طوبى لمن ثبت على الإسلام إلى الممات فإنه لا بدّ أن يدخل جنة اللّه دار النعيم المقيم الذي لا انقطاع له. المسلم مهما كانت حالته في الدنيا، بعد أن يدخل الجنة يكون من شدة اطمئنان نفسه وعظم نعيمه كأنّه لم يمرّ به في الدنيا بأسٌ قطّ ولو كان من أشدّ الناس بؤسًا في الدنيا بمرض وفقر وغير ذلك.

هنيئًا لمن تعلّق قلبه بطاعة ربّه، وعمل لمرضاة ربه، وهيّأ الزاد ليوم المعاد، ولم يهمل شيئًا من الواجبات، ولم يتأسّف على دنيا زائلة، ولم يلهث وراء المحرّمات الفانية، فكم من مستقبل يومًا لا يتمّه، ومنتظر غدًا لا يبلغه.

جعلنا اللّه وإيّاكم من الآمرين بالمعروف الناهين عن المنكر والعاملين بهذه الوصايا النّبويّة الشريفة، وإلى اللّه المرجع وعليه التّكلان، وله الأمر كلّه من قبل ومن بعد.