روى أبو داود وغيره عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: “إن اللّهَ يبعثُ لهذه الأمّةِ على رأسِ كلّ مائةِ سنةٍ من يُجدّد لها دينها“. وهذا الحديث فيه إشارة إلى ما منَّ اللّه تعالى به على أهل الإسلام من الأئمة الهداة ومن سائر العلماء الأعلام والصالحين الذين جعل اللّه فيهم من الأسرار وجدّد بهم الآثار وبيّن بهم طريق الحق وردع بهم أهل الزيغ والضلال. وقد ألّف السيوطي أرجوزة ذكر في أبياتها اللطيفة مجدّدي العصور، وفي باب “أعلام المسلمين” هذه السنة نتناول التعرّف على هؤلاء الذين قيل فيهم إنهم بلغوا رتبة المُجدّد. 

للعلم رجال قاموا به ونشروه طمعًا في مرضاة اللّه وليكونوا على درب مصطفانا سيّدنا محمّدٍ الأمين عليه أفضل الصلاة والتسليم، فالأرض لا تخلو من قائمٍ للّه بحجّةٍ، وعلى مرّ العصور السابقة رأينا تحقّق هذه المقالة، وفي كلامنا عن مجددي العصور نتناول هذه المرة من هؤلاء الفرسان الجهابذة الأعلام أحرار الصدور وأصفياء النفوس عالـمًا جليلًا إمامًا، نحريرًا همامًا هو الإمام الشافعيّ أبو عبد اللّه محمّد بن إدريس رحمه اللّه تعالى، الذي ولد عام مائةٍ وخمسين هجرية من آل المطّلب أبناء عمومة الرسول العربي عليه الصلاة والسلام.

ففي المائة الثانية كان مجدد عصرها الشافعي محمّد بن إدريس فمَن هو هذا العالم النحرير،  تعالوا لنتعرف على سيرته معًا.

مولده وتلقيه فنون العلوم

وُلد الإمام الشافعيّ بغزة ونشأ بعسقلان وانتقل إلى مكة ليتزوّد من العلم، ونشأ في أسرةٍ فقيرةٍ، فلقد مات أبوه وهو صغير فعاش في ضيقٍ، ولكن هذا لم يمنعه من العلم والمعرفة، فقد وصل به الأمر إلى كتابة العلم الذي يأخذه على قطع الجلود وسعف النخل لضيق ذات يده وعدم قدرته على شراء الورق.

حفظ القرءان الكريم وهو ابن سبع سنوات، وأخذ يحفظ الأحاديث النبويّة ويكتبها، ورحل إلى الصحراء لطلب اللغة العربية والشعر وبقي فيها عشر سنوات.

عشرة من عشرة

تعلّم الشافعي الرمي إلى جوار العلم، حتى إنّه كان يرمي عشرة سهام فلا يخطئ في سهم منها وقال في ذلك: “كانت همّتي في شيئين: الرمي والعلم، فصرت في الرمي بحيث أُصيب من عشرة عشرة”، وأيضًا كان في طلب العلم الشرعي مجدًّا صادق الهمة، ماضي العزيمة أذن له وهو بمكة بالإفتاء رغم حداثة سنّه، ولكنه لم يكتف بذلك فسافر إلى المدينة ليتفقّه على يد إمامها مالك بن أنس. وقد استعار كتاب الموطأ للإمام مالك فحفظه، وهنا نلحظ أنّه لم يكن يستطيع أن يشتري الكتب من شدة الفقر، ولم يمنعه ذلك من مقصوده ومبتغاه وهو يعلم أن اللّه إذا أحبّ عبدًا يهيّئ له من يعلّمه أمور الدّين على الوجه الصحيح، فلما أتى مجلس مالكٍ سأله الإمام مالك عن اسمه فقال: محمّد، فقال له: “اتق اللّه يا محمّد واجتنب المعاصي فإنه سيكون لك شأن، إن اللّه قد ألقى على قلبك نورًا فلا تطفئه بالمعصية”. ثم أخذ الشافعيّ يقرأ على مالكٍ ويتلقى العلم منه، وظلّ معه يروي عنه إلى أن مات الإمام مالك رحمه اللّه تعالى.

عالم قريش يملأ طباق الأرض علمًا

وقد نبغ الشافعيّ نبوغًا عظيمًا وعلا شأنه وسما علمه، وقد تحقّق فيه قول الرسول عليه الصلاة والسلام في الحديث الشريف: “لا تسُبُّوا قريشًا فإنّ عالمها يملأ طباق الأرض علمًا” رواه الطيالسي، ومعناه: سيأتي عالم من قريشٍ يملأ جهات الأرض علمًا، ففكر العلماء على من ينطبق هذا الحديث فوجدوه ينطبق على الإمام الشافعيّ لأنه من قريشٍ، أما الثلاثة الآخرون مالك وأبو حنيفة وأحمد فليسوا من قريشٍ.

يتساقط الجلّاس لقراءته

وقد أكرم اللّه تعالى الشافعيّ بمواهب عديدة منها حسن الصوت، حتى إنّه لما كان يقرأ القرءان وهو فتًى كان يقصده النّاس للاستماع إلى صوته الشجيّ، وكان بعض الجالسين المستمعين لقراءته يتساقطون من شدّة خشية اللّه وما ذاك إلا لسرّ‍‍ٍ في قراءته.

ومما ورد في عبادته رحمه اللّه ما رُوي من أنّه كان يقسّم الليل إلى ثلاثة أجزاء: ثلث للعلم، وثلث للعبادة، وثلث للنوم.

وورد في زهد الإمام الشافعي أنّه قال: ما شبعت منذ ست عشرة سنة، لأنّ الشبع يثقل البدن، ويُقسي القلب، ويزيل الفطنة، ويجلب النوم، ويضعف صاحبه عن العبادة.

وورد في ورعه أنّه مرة سئل عن مسئلة، فسكت فقيل له: ألا تجيب رحمك اللّه! فقال: حتى أدري، الفضل في سكوتي أو في جوابي؟

في العقيدة على نهج سلف الأمة

ومن أهم ما في حياة الإمام الشافعي رحمه اللّه منهجه في العقيدة، والتزامه نهج الكتاب والسنة، وما عليه سلف الأمة من تنزيه اللّه تعالى عن الجسم والمكان، ومن تكفيره للمجسمة الذين يصفون اللّه بصفات المخلوقات، ومن تكفير الذين ينسبون الجلوس للّه تعالى، والعياذ باللّه، ومن أقواله في العقيدة الحقّة ما نقله عنه الزبيديّ في كتاب إتحاف السادة المتّقين أنه قال ما نصّه: “إنّه تعالى كان ولا مكان، فخلق المكان، وهو على صفة الأزلية كما كان قبل خلقه المكان، لا يجوز عليه التغيّر في ذاته ولا التبديل في صفاته”. وروى الحافظ السيوطيّ في كتابه الأشباه والنظائر عن الإمام الشافعي أنه قال: “المجسم كافر”. وفي كتاب نجم المهتدي ورجم المعتدي للإمام ابن الـمعلم القرشي أن الإمام الشافعي رضي اللّه عنه قال: “من يعتقد أنّ اللّه جالس على العرش فهو كافر” كما حكاه القاضي حسين.

وقال أيضًا: “من انتَهَضَ لمعرفة مدبّره فانتهى إلى موجودٍ ينتهي إليه فكره فهو مُشبّه، وإن اطمأنّ إلى العدم الصرف فهو معطّل، وإن اطمأنّ إلى موجودٍ واعترف بالعجز عن إدراكه فهو موحّد” انتهى كلام الإمام الشافعي.

تصيرُ روحي إلى الجنّة فأهنيها أو إلى النّار فأعزيها

أما عن وفاة الإمام الشافعي فقد تعرّض الشافعي في حياته لأمراض كثيرة منها “البواسير” الذي كان سببًا لنزف الدم منه في كثير من الأحيان، وتعرّض ذات مرة بسبب هذا المرض لنزيف شديد قضى عليه رحمه اللّه.

توفي الشافعي بمصر ليلة الخميس بعد المغرب في آخر ليلة من رجب سنة أربع ومائتين وعمره أربعة وخمسون عامًا، وكانت وفاته عند عبد اللّه بن الحكم وإليه أوصى، ودفن في يوم الجمعة التالي ليوم وفاته، ودفنه بنو عبد الحكم في مقابرهم بالقرافة الصغرى وبنوا على قبره قبّة جدّدها صلاح الدين الأيوبي وبنى بجوارها المدرسة الصلاحية عام خمسمائة وخمسة وسبعين هجريّة.

فجزى اللّه علماء أمّة محمّدٍ العاملين عنّا خيرًا فهم البلسم الشافي في زمنٍ خيّم فيه الفساد والضلال والظلام.