لكل منّا نظرة إلى الماضي، فمنّا من يرى في هذا الماضي ذكريات وحنينًا إلى أجداد أو إلى ربوع أو إلى لحظات تركت في نفسه ذكرى سعيدة ولحظة فرح. لكن حينما تنظر إلى ذلك الماضي بتمعّن تلفتك تلك الرايات الخفّاقة بعبق النّصر المرفوعة فوق هامات الرجال الذين بذلوا أنفسهم وأموالهم في سبيل الحقّ والدفاع عنه، فتركوا بصمتهم إلى اليوم في شتّى العلوم والمجالات، وأنت تتنقل بين صفحات النصر يشعّ عليك نور منارات العلم والمعرفة فما الذي اختلف بين الأمس واليوم؟
في الماضي أصاب امرأة مسلمة ضيم من الروم فنادت وامعتصماه فخرج إليها بجيش بدايته عندها ونهايته عنده، ولم يقل المعتصم لا شأن لي فهي ليست من أهلي وليست في أرضي، أما اليوم فإن النّار تشتعل في بيت الجار فيعلو صراخه وصراخ نسوته وأطفاله والبعض يقول: طالما أنّ النار لم تأت إلى داري فلا شأن لي، فقد غاب التآخي ولم نعد كما قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: “مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ في تَوَادِّهِمْ وتَرَاحُمِهِم وتَعَاطُفِهمْ مَثَلُ الجسدِ، إذا اشْتَكَى منه عُضْوٌ تَدَاعَى له سائرُ الجسدِ بالسَّهَرِ والحُمَّى” رواه مسلم. وحينما غاب التآخي وحلّت مكانه الفُرقة والأنانيّة وابتعدنا عما أرشدنا إليه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم صرنا كالكرة بين أقدام العابثين.
في الماضي كنا أعلام العلوم فمن يدرس الطب حتى يومنا هذا يسمع بأنّ من روّاد هذا العلم الرازي وغيره… ممن وعى وطبّق مقالة رسول اللّه صلى الله عليه وسلم “أحبُّ النَّاس إلى اللّه أنفعهم للنّاس” رواه الطبراني، فهؤلاء نهلوا من علوم الدّين والدّنيا فكان نفعهم للنّاس واضحًا جليًّا، أما اليوم فقد انتقلنا من الريادة إلى التلقي في معظم المجالات. فما العمل؟! هل نجلس لنفاخر بأمجاد ماضينا وحاضرنا يخبر عن وهننا ومآسينا!!! قطعًا لا.
بل لا بد من العودة إلى جذور العزّة والنهوض، فإن تفرقنا وتناحرنا في ما بيننا تحت عناوين القوميّات والعصبيّات وما يشبهها ضُربنا وكُسرنا، وأمّا إن عدنا إلى النّهج الذي ارتضاه لنا رسول اللّه صلى الله عليه وسلم حيث قال: “انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا“، فــقال رجل: يا رسـول اللّه أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟! قال: “تمنعه من الظلم” رواه البخاري. حينها سنعود بإذن اللّه إلى التآخي والتعاضد وهما من أبرز أسباب عودة عزّتنا وقوّتنا. وأما ريادتنا في مجالات العلوم النافعة فلها طريق واضح وصريح، وهذا الطريق اسمه البحث العلمي وهو عنوان انشغل الكثيرون عنه واستبدلوه بالتقليد الأعمى، تقليد أنهك المجتمعات وخرّب قيمها وجعلها في موقع التّابع حتى أضحت علومنا مستوردة وهي تمنع عنّا أحيانًا في بعض المجالات الحسّاسة. وهكذا يبقى أحد مفاتيح عودة الإشراق إلى حاضرنا عودتنا إلى جذور أمجاد ماضينا.