الحمد للّه الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجًا، قيّمًا لينذر بأسًا شديدًا من لدنه ويبشر المؤمنين الذين يعملون الصالحات أن لهم أجرًا حسنًا، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد أشرف المرسلين، وخاتم النبيّين، وعلى آله وصحبه الطيّبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فيقول الله تعالى في القرءان الكريم: ﴿وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّكَ عَن سَبِيلِ الله إِن يَتَّبِعُونَ إلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116)﴾ سورة الأنعام.
من المعلوم أن كثيرًا من الناس يتبعون الظنّ، ويعتقدونه ويربطون أفعالهم وأقوالهم به، فتراهم يُعادون ويُصافون ويُبغضون ويُوادّون اعتمادًا على الظنّ، ولو عادوا إلى الصواب وسلكوا طريق الرشد لعلموا أن ما ظنّوه قد يكون بعيدًا من الحقيقة بُعد المشرق من المغرب، فكان الجدير بهم ابتداءً أن يُراعوا تحري الحقيقة، وذلك أنّ الظنّ لا يقوم مقام الحق، والريب لا يوازي اليقين، وقد قال ربّنا عزّ وجلّ: ﴿وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (٢٨)﴾ سورة النجم.
قال النسفي رحمه الله في تأويل هذه الآية أي إنما يُعرف الحق الذي هو حقيقة الشىء وما هو عليه بالعلم واليقين لا بالظنّ والتوهّم.
فإذا عُلم هذا فليقف طالب الحق على الحقائق، ولا يتسرعن في القول والفعل مع انخرام أسباب اليقين بما يروم معرفته كي لا يضع رفيعًا، أو يرفع وضيعًا، أو يُخدع بمجرد المظاهر.
فكم غرّت الظواهر أعينًا، وكم أتلف سوء الظنّ نفسًا، وكم أُخذ بريء بالتخمين، وهذا من الأخطار الـمُردية التي تجر المجتمعات إلى ما لا تُحمد عُقباه، فمخطئ من ظنّ السراب ماء، وواهم من ظنّ التنك ذهبًا لمجرد لمعانه تحت أشعة الشمس، وإنّما حال كثير من الناس كحال مسجون في بئر لا يرى من السماء إلا قدر فم البئر، وربما لو اجتمع إليه مئات ومئات ليوضّحوا له حقيقة الأمر ما قَبِل منهم إلا إذا خرج من البئر فرأى الحقيقة بأُمّ عينه.
ولذلك ينبغي التيقّظ والاحتياط والحذر، وعدم التّسرّع في إطلاق الأحكام على النّاس فمعرفة عين الحقيقة تحتاج إلى بحث وتدبّر، ومن أراد أن يقف على الأحداث ومجريات الأمور كما هي؟ لزم التّأنّي، واكتسى حُلة الصبر، وراض نفسه لتنقاد له بترك العجلة، وأنصف من نفسه قبل التفتيش عن عيوب غيره، فلربما كان هو مضيّعًا للحقوق ولا يدري، وذلك أنّ بعض الناس يضيّعون حقّ الله، فلا يلتزمون ما أوجبه الله تعالى عليهم من التكاليف الشرعية بأداء الواجبات واجتناب المحرّمات، ومن كان لمثل هذا مضيّعًا كان لما سواه من الحقوق أضيع، ومن قاده الهوى هوى، ومن جعل الرفق قائده سَلِم، وقديمًا رُوي أن شُريحًا القاضي رحمه الله أتاه مرّة شاكٍ يشكو له ويبكي بكاء مُرًّا، فقال أحد الحاضرين: أصلح الله القاضي ألا ينظُر إلى كثرة بُكائه، فقال شريح رحمه الله: إنّ إخوة يوسف عليه الصلاة والسلام جاؤوا أباهم عشاءً يبكون وهم ظلمة.
وليس لنا أن نُطلق التُهم وفي القضية جانب مستور، قد تأتي البراءة من جهته كما هو حال أصحاب النظريات الذين يتكلّمون في دعم نظرياتهم اعتمادًا على تخمينات وظنون، أو لربما تكلّموا في قضية ما من باب التخمين والنظر المجرد عن دليل الشرع، فأخذها عنهم غيرهم ونشروها على أنّها حقيقة، ولذلك فليُعلم أنّ الحذر في القول والفعل مطلوب، لا سيّما إذا كان المتكلّم ذا شأن وكان ممن يُقتدى بهم، ويُرجع إليهم للفصل في القضايا وترتيب أمور الناس، فقد رُوي أنّ الإمام أبا حنيفة رضي الله عنه، رأى غلامًا على السطح، فقال له: يا غلام احذر أن تَزِلّ، فألهم الله تعالى الغلام فقال: أنا إن زَلَلْتُ زَلَلْتُ وحدي أما أنت إن زَلَلْتَ زَلَّتِ الأُمَّةُ فأطرق أبو حنيفة رحمه الله ومشى.
ومن هنا نقول: على من أراد اتّباع الحقّ أن يقف عند حدّ الشرع، ولا يتعدّى ذلك، ولا يتأتّى هذا إلا بالعلم، وحيث ابتعد أكثر الناس من العوامّ وأصحاب المناصب المتوسطة والمتقدّمة عن تحصيل علم الدين ومراعاة جانب الشرع، رأينا كيف صارت تنبني القضايا على الرأي المحض والتوهّم، فترنو العين للسَّراب بدل مشاهدة الواقع، ويُؤخذ سعدٌ بجريرة سعيد، وربّنا عزّ وجلّ يقول: ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ الله وَلَا تَكُن لِّلْخائِنِينَ خَصِيمًا (١٠٥)﴾ سورة النساء. ويقول أيضًا: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُواْ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (٢)﴾ سورة المائدة.
وإذا ما عُلم هذا، فليُعلم أنّه حيث ظهر الحقّ كانت المبادرة إليه قدر الحاجة والوسع مطلوبة، وكان الجهر به عندئذ للإصلاح مع الضوابط التي تقتضيها الحكمة عملًا عظيمًا، يُحبّه الله ورسوله، وحيث التبست الأمور، كان الرفق وإعادة النظر مرة بعد مرة عين الحكمة.
ومثل هذا الكلام أيضًا، يتوجّه إلى مريد الشهادة على الحوادث والوقائع، حيث كثيرًا ما ينبني حكم ما على شهادة ما من إنسان اجتمعت فيه مواصفات مخصوصة، وقد جاء في الجامع لأحكام القرءان للقرطبي رحمه الله، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: سُئل النبيّ صلى الله عليه وسلم عن الشهادة فقال: «تَرَى هذه الشمس فاشهد على مثلها أو دع».
قال القرطبي رحمه الله بعد ذكره الحديث: وهذا يدلّ على اشتراط معاينة الشاهد لما يشهد به، ولا يكون ذلك بالاستدلال الذي يجوز أن يُخطئ.
وإذا ما كان الأمر هكذا، وكانت الحكمة والمصلحة تقتضي العمل بما بيّناه وقلناه، فلماذا التهوّر، ولماذا يقحم بعض النّاس أنفسهم فيما لا يعود عليهم بالنفع والخير، بل بالهلكة والضير، فإن من لم يعُدَّ كلامه من عمله كان ما يُفسد أكثر ممّا يُصلح، وقد ورد عن
عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تجدون الناس كإبل مائة لا يجد الرجل فيها راحلة» رواه مسلم.
وروى البيهقيّ رحمه الله عن الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه أنه قال: قال لي أستاذي: يا مالك مَن السّفلة؟ فقلت: من أكل بدينه، فقال: مَنْ سفلة السفلة؟ فقلت: من أصلح دنيا غيره بفساد دينه، فَصَدَّقني.
نسأل الله السلامة والحمد للّه أولًا وآخرًا.█