كان يجلس على أحد المقاعد في الباص الذي يقله ورفاقه إلى الجامعة… كان هناك مقعد فارغ بقربه… وضع كتبه على المقعد الفارغ وذهبت أفكاره إلى والدته المريضة.. كانت متعبة جدًّا لكنها لا تظهر ألمها حتى لا تشغل بال ابنها فؤاد.. كانت تتألم بصمت.. ابنتها ليلى متزوجة لكنها تزورها يوميًّا لخدمتها ومساعدتها في شؤون المنزل….
هذه هي السنة الأخيرة لفؤاد في الجامعة… كان يعد نفسه أن يعمل بعد التخرج لمساعدة أمه الصابرة… التي رفضت الزواج بعد وفاة زوجها وهي شابة…حتى تتفرغ لتربية ولديها.. فؤاد وليلى… وكانا يقدّران تعبها لأجلهما ويعملان جهدهما في خدمتها والتخفيف عنها…
توقف الباص في إحدى المحطات… وصعدت فتاة في غاية الجمال… اقتربت من فؤاد… جلست في المقعد المحاذي له… ثم أخرجت كتابًا من حقيبتها وبدأت تطالع فيه… شغلت سعاد بال فؤاد… هل يا ترى هي طالبة مثله… أم هي تقصد مكانًا آخر غير الجامعة. خطر بباله أن يكلّمها… لكنها سبقته بالكلام قائلة.. أنت في أي كلية في الجامعة… أجابها أنه سيتخرّج بعد أشهر قليلة… تابعت حديثها معه…
تطورت العلاقة بينهما… خطبها من أهلها… وجد عملًا بسيطًا بأجر قليل… لم يكن راتبه يكفي أن يصرف على أمه وخطيبته… قصّر مع أمه.. اشتد مرضها… لكن فؤاد كان يصرف كل ما يملك على خطيبته ويترك أمه حتى بلا سؤال عنها… وبعد أشهر قليلة.. تفاجأ فؤاد بخبر خطبة سعاد لرجل غني… ذهب إليها… أخبرته أنها لا تستطيع العيش معه بسبب فقره… أحسّ عندها وكأن كل أحلامه تبخّرت وأنه كان يعيش وهمًا لا حبًّا… وأنه كان بالنسبة لسعاد مجرد احتياط وعندما وجدت الأغنى تركته ورحلت…. من الصعب على الإنسان أن يعيش الأوهام… أن يرى أمامه أملًا كبيرًا… ثم يكتشف أنه إنما يعيش سرابًا كبيرًا… تعلّم من تجربته أن يعرف كيف يختار… تعلّم كيف يوزّع اهتمامه بين من حوله… أن لا يصرف كل اهتمامه لإنسانة دخلت حياته فجأة… ويترك حبًّا صاحبه منذ رأت عيناه النور… حبّ أمّه…
قصة أخرى… خالد أستاذ في إحدى المدارس الثانوية… عمل كثيرًا ليكسب ثقة أصحابه وطلابه… كان يخبر باقي الأساتذة عن مشاريعه… ويحاول إقناعهم بمشاركته في خططه التجارية… منذ حوالي الأربع سنوات… عمل رحلة عمرة بمبلغ زهيد… يكاد يكون ربع ما تأخذه الشركات الأخرى… ذهب معه الكثير… عانوا في رحلتهم معه… لكن زيارة الحبيب محمّد صلى الله عليه وسلم أنستهم كل تعبهم… وشكروا اللّه أن يسّر لهم أمر عمرتهم وعودتهم سالمين إلى أهلهم… وجاء موسم الحج… أعلن خالد عن رحلة للحج بمبلغ أقل بكثير ممّا تأخذه باقي الشركات… اشترك معه كثير من الناس… جمع مبلغًا كبيرًا من المال… وفي صبيحة أحد الأيام… وصلهم الخبر الذي كسر ظهورهم… الأستاذ خالد أخذ مالهم وسافر هاربًا إلى إحدى الدول… خسر المساكين أموالهم… وخسروا ما هو أهم من ذلك… خسروا رحلة الحج… كان مثلهم كشخص ضاع في الصحراء… يكاد يقتله العطش… يرى أمامه الماء فيذهب ليشرب… ولكنه يكتشف أنه إنما يركض وراء السراب…. صعب جدًّا على الإنسان أن يخطّط ويعمل ويتعب ويحلم.. ثم يكتشف أنه إنما يركض وراء مجهول.. ويخيب أمله حين لا يتحقّق أمله وحلمه… لكن لا ينبغي لهذا الإنسان أن يصاب باليأس.. الغيب لا نعلمه.. الذكي من يعمل ضمن إمكاناته… لا يعرّض نفسه لما لا يطيق من الصدمات… يصبر على كل أحواله… يتوكّل على اللّه… وإن أصابه خير يحمد اللّه عزّ وجلّ وإن أصابه غير ذلك… يصبر ويحتسب الأجر… يعالج أموره بالصبر وحسن التصرف… ولا ينسى أن يسأل اللّه التوفيق… █