أكتب لك في الصفحة الأولى من هذه السنة متأخرًا لكن “عذرًا على التأخير”. هذه هي عادتي التي أحاول أن أتخلص منها لكن عبثًا، فأنا دائمًا متأخر. في أغلب حالات حياتي متأخر، في دوامي الصباحي متأخر، في عملي غالبًا متأخر، في تسليم أبحاثي الجامعية متأخر، في اجتماعات الأسرة متأخر، أتأخر لأنام وأتأخر في الاستيقاظ، وكأن التأخر أصبح عادتي اليومية. حتى إنني تأخرت اليوم لكتابة الصفحة الأولى في صفحاتك يا يومياتي العزيزة لكن ما حصل معي اليوم دفعني بشدة للكتابة ولو في وقت متأخر. 

لقد تعبت اليوم في العمل، لأن حرارة الجو كانت مرتفعة جدًّا وأيضًا زاد تعب العمال في الشركة التي أعمل فيها. وفيما كنا ننتظر انتهاء الدوام بفارغ الصبر أتى أحد الزبائن لتسلّم بضاعة من المستودع، وعلى الرغم من المعزّة القلبية التي أكنها شخصيًّا لهذا الزبون إلا أنني امتعضت نوعًا ما لأنني كنت مضطرًا للذهاب معه إلى المستودع والبقاء معه حتى ينتهي من تسلُّم البضاعة.

طلبت منه أن يسبقني إلى المستودع وأخبرته أنني سألحق به فورًا. ومثل عادتي تأخرت عليه لانشغالي بالإجابة على بعض المكالمات التي وردتني فور مغادرته مكتبي. توجهت إلى المستودع بعد حوالي خمس وعشرين دقيقة، وكانت رجلاي لا تكادان تحملاني من شدّة التعب وشدة حرارة الشمس.

وصلت إلى الرجل الستّيني وكانت أُولى عباراتي “عذرًا على التأخير” فابتسم لي ابتسامة خفيفة وقال لي: “لا بأس يا صديقي فأنت لم تتأخر إنما أنا من تأخرت” لم أعرف ماذا كان يقصد ولم يكن لي جلد للمناقشة في الموضوع فأنا أصلًا عطِشٌ ولا قوة لي على المناقشة. سألني الرجل عن البضاعة وأشرت إليها وقلت له: “ها هي”. توجه الرجل إليها وبدأ بحملها، عندها استوقفته وسألته والدهشة تعلو وجهي: “يا عم، أين العمال الذين تأتي بهم عادة”؟ فقال لي: “كل العمال أخذوا إجازتهم الصيفية، وأنا مضطر إلى هذه البضاعة لذلك جئت لآخذها بنفسي” عندها أحسست بصعقة في قلبي وقلت له مستغربًا: “يا عم أنت تعلم أن البضاعة التي تريد أن تحملها يصل وزنها إلى طن، فكيف ستحملها بنفسك”؟ قال لي: “اللّه يعينني”.

في هذه اللحظة بالذات شعرت بالخجل الشديد من نفسي ونظرت إلى الرجل العجوز وفكرت في نفسي كيف أن رجلًا طاعنًا في السن مثل هذا الرجل له الجلد على تحميل ألف كيلوغرام من البضاعة وأنا لا جلد لي حتى على الكلام، عندها استوقفته وقلت له: “لو سمحت يا عمي لا تحمل أنت البضاعة، سأذهب لجلب عمّال ليساعدوك” فقال لي: “جزاك اللّه خيرًا أنا بانتظارك”. توجهت فورًا إلى المستودع الآخر وبدأت أبحث عن عمال قادرين على مساعدة الرجل في تحميل بضاعته لكنني تأخرت عليه، لكن في نهاية المطاف جلبت عاملين اثنين وتوجهت إلى العم فرأيته متكئًا على شاحنته وقد حمّل البضاعة بأكملها في الشاحنة!!

تمنيت حينها لو أنني أختفي فجأة من أمام الرجل لشدة ما شعرت به من الخزي والخجل وكم أسفت على نفسي وكيف أن عادتي في التأخر سببت لي إحراجًا كبيرًا مع هذا الرجل وكيف أن هذه العادة بدأت تؤثر ضررًا على عملي وعلاقتي بالزبائن. لكن الأمر الذي أدهشني أكثر أن الرجل لم يأبه كثيرًا لأمر تأخري وبقي مبتسمًا في وجهي. عندئذ سألته مستغربًا: “يا عمي لم بقيت مبتسمًا كل هذا الوقت مع العلم أنك متعب وقد حملت البضاعة كلها بمفردك بالإضافة إلى أنني تأخرت عليك مرتين اليوم فما سرّ تبسمك”؟

نظر الرجل إليّ مليًّا وقال لي: “اجلس يا بني، لأخبرك قصتي مع التأخر. عندما كنت يا بني في عمرك وكنت شابًّا مجتهدًا في عملي أكد ليلًا نهارًا في العمل وكنت دائم الانشغال وكنت دائمًا متأخرًا عن أغلب أموري تمامًا كما هو حالك اليوم. كنت لا أعطي موعدًا لأحد إلا وأتأخر عنه، وكنت أقضي وقتي في الاعتذار من “فلان” ومراضاة “علان” لأنني تأخرت عليهم. وفي يوم أتتني فرصة العمل في الخارج وفرحت جدًّا بهذه الفرصة فأنا كنت أنتظرها بفارغ الصبر. صحيح أن فراق الأهل والأصحاب وخاصة أمي رحمها اللّه، كان صعبًا عليّ لكن هذه الفرصة كانت ما تمنيته في حياتي.

سافرت إلى بلاد الاغتراب ومرّت الأيام تلو الأيام، والشهور تلو الشهور، وأنا أعمل بجهد وأجمع الأموال لأعود وأستقر في ربوع الوطن بجانب أهلي وأحبابي. حتى كان ذلك اليوم حين اتصل بي أخي الكبير وأخبرني أن أمي مريضة بعض الشىء وأنها تعاني من أوجاع في ظهرها، كما قال لي إنني أطلت الغياب هذه المرة وإن أمي مشتاقة لي وتريد رؤيتي بشدة، أخبرته أنني سأعود قريبًا وأن عطلتي السنوية تبدأ بعد شهر لذلك سآتي وأمكث لمدة شهر في الوطن بجانب أمي. لكن بعد مرور عشرة أيام رنّ هاتفي ورأيت رقم أخي عليه، فأجبته وإذ به يقول لي: يا أخي لقد تدهورت حالة أمك وأدخلناها إلى المستشفى وقد شخّص الأطباء حالتها بما يسمى ورمًا خبيثًا في العظم، قلت له حينها: سأترك كل شىء وأعود على أول طائرة متجهة إلى بيروت، حزمت حقائبي وحجزت على أول رحلة متجهة إلى لبنان، لكن اللّه شاء أن أتأخر عن موعد الرحلة بسبب انشغالي ببعض الأعمال الطارئة في الشركة التي أعمل بها.

هذا التأخر يا بني شغلني عن الاطمئنان على حال أمي، وأجلت موعد الرحلة إلى اليوم التالي، وبسبب بعد المسافة بين البلد الذي كنت أعيش فيه وبلدي فإن الرحلة كانت تستغرق أربعًا وعشرين إلى ثلاثين ساعة، وحتى لا أطيل عليك الحديث وصلت إلى المطار بعد يومين شاقين في السفر وتوجهت فورًا إلى بيت أهلي، فوجدت عمّتيّ تصعدان في المصعد سلّمت عليهما وقبلتهما وسألتهما عن أحوالها فنظرت كل واحدة إلى الأخرى وانفجرتا بالبكاء، عندها اتسعت حدقتا عينيّ وصرخت بأعلى صوتي لا تقولاها، دخلت المنزل فرأيت الأهل والأصحاب وقارئ القرءان يقرأ بضع آيات من القرءان الكريم.

تأخري يا بني أفقدني أمي ولم أستطع اللحاق بجنازتها، لذلك قلت لك إنك لن تتأخر كما تأخرت أنا. نصيحة مني يا بني، المثل اللبناني يقول: “العمر بيخلص قبل ما الشغل يخلص” لذلك لا تُشغِل نفسك في العمل وجمع الأموال فقط، فنحن لم نخلق في هذه الدنيا لهذا، اشغل نفسك بطاعة اللّه وبرّ والديك قبل أن تفقدهما، هذه هي نصيحتي لك يا بني”.

إعداد محمد حلاوي