عزيزتي يومياتي..
في الحقيقة لم تحدث معي أشياء مشوقة اليوم في عملي لأكتبها لك فقد كان نهار عمل شبه عادي وروتينيًّا. الأشخاص هم هم في المكتب والاجتماعات كالعادة، المهام والاتصالات بقيت على حالها وكلّها جرت على ما يرام. لكن هذا خلال دوام العمل. إنّما الشىء المثير الذي حصل، كان في سيارة الأجرة، وتحديدًا في طريق عودتي إلى البيت وهو ما دفعني إلى كتابة هذه الكلمات فور عودتي إلى المنزل، فتلك المرأة التي كانت مع طفليها تركب سيارة الأجرة نفسها التي ركبت فيها خلال عودتي إلى منزلي هي التي قلبت يومي رأسًا على عقب، بل غيّرت نظرتي لطريقة حياتي.
كان الطفل الرضيع الذي في يدها لا يكفّ عن البكاء وكان الولد الآخر وعمره حوالي خمس سنوات يلحّ على شراء لعبة من محل الألعاب فبدأ الأمر يزعجني ويزعج سائق سيارة الأجرة أيضًا، بالإضافة إلى زحمة السير الخانقة التي تشهدها مدينة بيروت في هذا الوقت، فكانت خلطة «هريان الأعصاب» حاضرة جاهزة. ولم تنفع محاولاتي لإلهاء الطفل الرضيع حتى تخفَّ الأصوات الحاصلة في السيارة ولأنعم ببعض الهدوء ريثما أصل إلى المنزل. صراحة كانت الأفكار والمشاعر مختلطة في داخلي، فمن جهة كنت أشفق على هذه السيدة، ومن جهة أخرى أردت أن أسكت الطفلين بأي وسيلة كانت. وفي وقت من الأوقات أحسست بأنّ السيدة قد خجلت من نفسها وقد بدأت تشعر بالإعياء، فقرّرت أن آخذ الولد الرضيع من بين يديها وبدأت أغنّي له أغنية كنت قد اعتدت سماعها من أمي وأنا صغير فبدأت وتيرة بكائه بالتراجع حتّى نام بين يدي. شكرتني الأمّ كثيرًا بطبيعة الحال، وعندها بدأ الحوار بيني وبينها.
سألتها إن كانت تعمل فأجابتني بجواب صادم: «أعمل بوظيفة تتطلّب مني الوقوف لساعات طويلة ربما لمدة مائة وثلاثين ساعة أسبوعيًّا وربما أكثر، أعمل لمدة سبعة أيّام في الأسبوع وحوالي 18 ساعة يوميًّا، ولا ساعات غداء في عملي، إلا في بعض الحالات حين يتناول من أعمل لصالحهم الغداء. وظيفتي يا سيّدي تتطلّب مهارات شخصيّة وبدنية عالية بالإضافة إلى مهارات النقاش المتقدّمة، والمهارات الطبيّة والاقتصاديّة والماليّة. وظيفتي تتطلّب التركيز الذهنيّ المكثّف على حاجات ورغبات من أعمل لصالحهم، والعمل في أوقات الأعياد والعطل يتضاعف، وما سيصدمك يا سيدي أنّ مليارات الأشخاص حول العالم يعملون بهذه الوظيفة. نعم يا سيدي أعمل ووظيفتي هي الأمومة».
أحسست بقلبي أنّه توقّف عن الخفقان للحظات ولم أعد قادرًا على التنفّس، لم أعرف ماذا أقول لها. ثم أردفت قائلة «وظيفتي يا سيدي بدون مرتب، لكن بعض اللّحظات التي تمر بي بين الحين والآخر لا تقدّر بمرتبات العالم أجمع. رؤية صغيري هذا يضحك للمرة الأولى لا تقدر بثمن، ربما لست أبًا يا سيدي لكن أؤكّد لك أنّك حين ترزق بالأطفال ستعرف ما معنى أن يضحك ابنك للمرة الأولى في وجهك وكيف أنك ستنسى تعبك كله من خلال هذه الضحكة، ستعرف حينها ما معنى الكلمة الأولى التي ينطق بها ولدك وكيف أنّك ستترجاه ليعيدها ولو مرّة واحدة فقط لكي تستطيع أن تلتقط له فيديو وهو يقولها».
«في المرة الأولى التي ستحضن بها طفلك ستتغيّر تمامًا ولن تعود كما أنت، ربما سترغب في العودة كما كنت سابقًا كشخص لديه وقت فراغ ولا يعرف معنى الإرهاق والتعب. لكن حينها سيكون الوضع قد اختلف، فقد استبدلت بكل ما كنت عليه الاهتمام بالأطفال، وبكائهم، وشكواهم الدائمة، وشجارهم. قد يبدو الأمر وكأنّك بدوّامة لكن نصيحة منّي لا تفوت هذه اللحظات فسيأتي يوم وتفتقدها».
وتابعت السيدة والدموع عالقة في عينيها «لكلّ شىء مرة أخيرة، سيأتي اليوم الذي ستطعم به طفلك لآخر مرة، وستحضنهم وهم نائمون لآخر مرة، ستغسل شعرهم لآخر مرة، وستمسك يدهم في الشارع لآخر مرة، بعدها لن يحتاجوا منك هذه الأشياء مرة أخرى، ستتوقف عن الاستيقاظ في منتصف الليل لتحتضنهم، ستتوقف عن الغناء لهم واللعب معهم، فهناك دائمًا المرة الأخيرة».
«عندما تصطحبهم إلى المدرسة ستقبّلهم قبلة الوداع، وفي اليوم التالي لن يطلبوا منك أن تصطحبهم إلى المدرسة مجددًا، فهم صاروا كبارًا سيكون هناك آخر مرة تقرأ لهم فيها قصة ما قبل النوم، تنظف وجههم المليء بالأوساخ، كما ستكون هناك آخر مرة يقفزون بها بين ذراعيك، في الحقيقة أنت لن تعرف متى ستكون آخر مرة يحدث فيها ذلك، وحتى عندما يحدث الأمر فإنّك ستحتاج إلى الوقت لتستوعب الأمر. لذا وأنت تعيش هذه اللحظات تذكّر أنّها ستنتهي ولن تبقى للأبد وعندما تنتهي فأنت لن تختبرها مجدّدًا» وهنا قطعت السيدة الحديث وقالت للسائق: «على اليمين لو سمحت» وترجّلت السيدة من السيارة آخذة معها ولديها وتاركة في داخلي عاصفة من الأفكار والمشاعر.
عزيزتي يومياتي، الشىء الوحيد الذي فعلته قبل أن أفتح صفحاتك البيضاء عند قدومي إلى المنزل هو الذهاب إلى سرير صغيرتي الرضيعة وضمّها بقوّة إلى صدري وتقبيلها بحرارة، خفت كثيرًا من ذلك اليوم الذي أخبرتني عنه تلك السيّدة، وخفت أكثر من اليوم الذي سيدقّ بابي «عريس الهنا»، ليأخذ مني قمر حياتي. لمجرد التفكير في ذلك اليوم تدب قشعريرة في جسدي، ويجعل دقات قلبي أسرع من فوران الماء عند الغليان. صعب هو ما يقاسيه الأهل في حياتهم تجاه أولادهم، ولك منّي أيتها الأم الصالحة كل تقدير على ما تقاسينه في حياتك من جهد جسدي وفكري وقلبي.
صدقت يا حبيبي يا رسول اللّه «أمّك ثمّ أمّك ثمّ أمّك»، وأرجو من اللّه أن أقدر على بر والديّ على أكمل وجه فحقّ الوالدين علينا عظيم. ليس عندي ما أختم به هذه الكلمات فمشاعر الأبوّة التي تختلط في نفسي الآن تعجز أناملي عن كتابة وصفها، ولا أظنّ أنّ أيّ كاتب أو شاعر، ولا حتى أيّ ممثل أو برنامج واقعي تلفزيوني قادر على نقلها إلى قلوب ونفوس النّاس، هي مشاعر تحسّ فقط ولا أعرف كيف أعبّر عنها سوى بالدموع.
إعداد محمّد حلاوي