عزيزتي يومياتي، أدعو اللّه أن لا يصيب أحبّتي وإخواني أي سوء، وأن لا يصيبهم أي مرض، ليس لأنّي أتمنّى لهم العافية دومًا في أجسامهم وصحتهم فقط، إنما أيضًا لكي لا يضطروا للشعور بمعاناة الانتظار في عيادة الطبيب وكي لا يقاسوا ما عانيت اليوم في عيادة طبيب الأسنان. 

كان اليوم موعدي المنتظر عند طبيب الأسنان، وقد خرجت من عملي باكرًا وتوجّهت إلى العيادة قبل موعدي بساعة تفاديًا لزحمة السير وحتى أصل في الموعد المحدّد. وصلت إلى العيادة وقد فرحت بأنني وجدت موقفًا لسيارتي يبعد أمتارًا قليلة عن العيادة، فظننت أنّ البداية مشرقة وأن الأمور ستجري كما خطّطت لها، لكن ما كل ما يتمنّى المرء يدركه كما يقول الشاعر.

دخلت العيادة فوجدتها شبه ممتلئة وغرفة الطبيب مطفأة الأنوار. تقدّمت نحو مساعدة الطبيب، التي وكعادتها، كانت مشغولة بالتحدّث مع صديقتها على الهاتف، عرّفت عن نفسي، وبالتأكيد لم تعرني أي اهتمام، فعرّفت عن نفسي مجدّدًا مع احتداد نبرتي وقلت لها: عندي موعد مع الطبيب عند الساعة الثالثة والنصف، فقالت لي بنبرة حادة: «الطبيب لم يأت اليوم عنده حالة طارئة في المستشفى وقد أجّل كل مواعيده إلى ما بعد الظهر، إن شئت عد بعد ساعتين وإن شئت استرح ريثما يأتي» بالتأكيد اخترت الخيار الثاني لأن ألم الأضراس أشد من ألم الانتظار أو هذا ما كنت أظنّه.

جلست على كرسي بجانب مكتب المساعدة، وأمسكت بهاتفي الجوّال لمتابعة بعض الأمور العالقة في العمل، لكن صوت المساعدة وضحكاتها العالية منعني من التركيز فأقفلت هاتفي، وأغمضت عيني لأريحهما من ضغط النظر إلى الشاشة طوال النهار. فبدأ حديث المساعدة يتسلّل الكلمة تلو الكلمة والحرف تلو الحرف إلى أذني. «سارة، هل سمعت بفلانة ماذا فعلت مع زوجها، جعلته ينظّف البيت كلّه بعد سهرة البارحة لا أدري كيف قبل معها، لو كان زوجي لحملته على أكف الراحة. كيف لا وقد أهداها السنة الماضية سيارة طراز سنتها، وفي كل عطلة ربيع يأخذها إلى بلد مختلف» ثم تسكت قليلًا فتعلو من بعدها ضحكتها الثاقبة للآذان. ثم تكمل مع شهقة وكأنّها سمعت خبر موت أحدهم «هل رأيت صور عرس فلانة على الانستغرام، ما هذا البخل، لم يقدّموا في الوليمة سوى صنفين من الطعام مع بعض المقبلات التي «لا تملي العين» هل رأيت أسرتها كيف كانت تتصرّف، صحيح أنّها صديقتي منذ الصغر لكن لا أستطيع أن أخفي عنك شيئًا ولا أستطيع أن أسكت عن هذه الأشياء. هذا كله ولم أخبرك ماذا لبست أختها، لم أر في حياتي أرخص من هذا الفستان ناهيك عن لونه الفاقع، لا أدري إن كانت قد اشترته من سوق الثياب البالية» مع ضحكة صفراء ثم تتابع «كل هذا ضعيه جانبًا وانظري إلى تبرّجها، هل تركت أخاها الصغير يرسم على وجهها، صدقًا إنني لم أعرفها حتى أتت وسلّمت عليّ فعرفتها من صوتها، وغير ذلك الكثير الكثير، لكن ما عساي أقول خليني ساكتة بلا ما إحكي».

وهنا يا يومياتي العزيزة لا أدري كيف رفعت يدي وأخذت السماعة منها وأقفلت الهاتف بوجه صديقتها، وقلت لها: «كل الكلام الذي قُلتِهِ وكل هذه التفاصيل ثم تقولين بلا ما إحكي، هل بقي كلام على الناس أكثر من هذا تريدين قوله، اتقي اللّه يا آنسة اتقي اللّه، هناك ملك اسمه عتيد يلازمك يكتب كل كلمة فيها معصية تنطقين بها، لقد ارتكبت ما ارتكبت من المعاصي في الدقيقتين الفائتتين، ألم تسمعي بقول اللّه تعالى: ﴿وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا﴾ سورة الحجرات/12، ألا تخافين من عذاب اللّه» هنا نظرت إليّ المساعدة نظرة اندهاش وصدمة وفتحت فمها مندهشة مما فعلته ومما قلته ثم تابعت قائلًا وأنا أجهز نفسي للانصراف «وجع الأسنان محتمل أمام وجع الأذنين الذي سبّبته لي في الدقيقتين الفائتتين، لقد أتعبت نفسيّتي وجعلتني أنسى وجع أضراسي، قولي للطّبيب أنني حضرت على الموعد لكن الكلام الذي سمعته منك أزعجني ودفعني للذهاب إلى طبيب آخر».

خرجت من باب العيادة وهي لا تزال مندهشة ومستغربة من تصرّفي معها، لا أدري حقيقة إن كانت كلماتي قد وصلت إلى أذنيها وإلى قلبها.

يوميّاتي العزيزة، لا أدري كيف أصف هذه الآفة المنتشرة في مجتمعنا للأسف. ربما بَعُدَ معظم الناس عن دينهم فأصبحوا لا يَزِنُون كلامهم بميزان الشرع، ربما شهوة الكلام أخذت منهم كل مأخذ فأعمت أبصارهم وقلوبهم. كلام عن فلان ماذا فعل بزوجته، وآخر عن فلانة ماذا أهدت أمها، وآخر عن ملابس فلانة، وكلام آخر عن منزل الأسرة الفلانيّة. البيوت أسرار، عبارة لطالما سمعناها، في صغرنا ولو لم يحبك أصحاب الزفاف أو أصحاب البيت الذي دخلته، لما دعوك إلى زفافهم ولما أدخلوك بيوتهم وأطلعوك على أسرارهم، فالأولى لك أن تذكرهم بالخير وأن تصمت وتغضّ النّظر عما رأيته من شوائب، فقلوب الأحرار قبور الأسرار.

يوميّاتي العزيزة، كل يوم نسمع عن حصول حوادث أسريّة من قتل وضرب وطرد من المنزل بسبب هذه الآفة التي تسمى في مجتمعنا بـ«القلقلة» أو ما نعرفه شرعًا باسم الغيبة. الأولى لنا أن نستعمل هذا اللسان في طاعة اللّه وأن لا نذكر مساوئ إخواننا بل أن ننصحهم في السرّ بدل أن نفضحهم في العلن…

إعداد محمد حلاوي