الحمد للّه الذي أكرمنا بشهر رمضان، والصّلاة والسّلام على سيّد ولد عدنان، إمام الـمتّقين وخاتم النبيّين، وعلى إخوانه من النبيّين والـمرسلين وآله وصحبه الغرّ الـميامين.
ها هو خير الشهور شهر رمضان الـمبارك قد أطلّ بأنواره البهيّة فأَكْرِم به من شهر قال فيه اللّه عزّ وجلّ في كتابه العزيز: ﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْءانُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ سورة البقرة/185. وقال صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدّم من ذنبه» رواه البخاري.
إنّ شهر رمضان الكريم هو شهر الفضائل والـمكرمات والـمبرّات، شهر تكثر فيه التوبة إلى اللّه، وإقبال الناس إلى الطاعات، شهر تزدان فيه حياة الـمؤمن بنور فريضة الصوم التي هي من أعظم فرائض الإسلام.
إنّ شهر رمضان شهر صفاء وموسم نقاء وهناء، لياليه أنس وسكينة، وأيامه خشوع وطمأنينة.
شهر نتعلّم فيه الصبر على الـمشقّات والإحساس بحاجات الفقراء والـمساكين.
إنّه أفضل الشهور فطوبى لمن أطاع اللّه فيه وأخلص في عبادته.
إن صيام رمضان فريضة من فرائض الإسلام، هذا الدين العظيم الذي جاء بالعدل والوسطيّة والاعتدال، الإسلام الذي هو بريء من الـممارسات التي يمارسها البعض وتنفّر من حقيقة الدين وحقيقة مبادئه وتعاليمه.
إن شهر رمضان مضمار محبّي الخير العاملين، وغنيمة الصادقين، فيه تضاعف الأعمال وتحط الأوزار.
وهو نعمة كبيرة على من بلغه وقام بحقّه بالرجوع إلى ربّه من معصيته إلى طاعته، ومن الغفلة عنه إلى ذكره، ومن البعد عنه إلى الإنابة إليه.
إنّ لشهر رمضان فضائل لا تحصى، ويكفي فيه شرفـًا وفضلًا ما ورد فيه من آيات في محكم التنزيل تقرأ وتتلى وأحاديث تروى.
إنّه شهر اشتهرت بفضله الأخبار وتواترت فيه الآثار، فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم قال: «إذا جاء رمضان فتّحت أبواب الجنّة وغلّقت أبواب النّار وصفّدت الشياطين» رواه مسلم في صحيحه وغيره.
وكان النبيّ صلى الله عليه وسلم يبشّر أصحابه بقدومه، فعن أبي هريرة رضي اللّه عنه قال: كان النّبيّ صلى الله عليه وسلم يبشّر أصحابه ويقول: «قد جاءكم شهر رمضان شهر مبارك، افترض اللّه عليكم صيامه، فيه تفتّح أبواب الجنان، وتغلّق فيه أبواب الجحيم، وتغلّ فيه الشياطين، فيه ليلة خير من ألف شهر، من حرم خيرها فقد حرم» رواه النسائي والإمام أحمد واللّفظ له.
إخوة الإيمان، في شهر الصيام يصقل الـمؤمن روحه، ويتربى على سلامة الصدر وطهارة القلب من كلّ الأمراض التي رانت عليه وتسبّبت في ظلمته، والتي عجز عن أن يتخلّص منها بقيّة الأيام، فيأتي شهر الصيام ببركاته فينسف هذه الأمراض من القلوب نسفًا، ويزيل حجابها ويغسلها من كلّ ذلك.
وفي هذا الشهر يتربّى الـمؤمن الصائم ويتمرّن على إمساك لسانه ولجمه عن كلّ ما من شأنه أن يؤدي به إلى الخسارة في الدنيا والآخرة، والتخلّص من حبائله وحصائده الـمهلكة والـمكبة لصاحبها في النار على وجهه.
الصوم تربية عمليّة على الإخلاص والإحسان والصدق والصبر والحلم والتواضع والحياء والزهد والقناعة والتسامح والأمانة وحسن الـمعاملة وغيرها من أمّهات الأخلاق التي جاء بها الإسلام وحثّ عليها ورغّب فيها، كما أنّه يطهّر النفوس الـمؤمنة من رذائل الأخلاق كالشحّ والبخل والكبر والحسد والرياء وغيرها.
ومن فوائد الصيام أيضًا أنّه يدفع الـمؤمن إلى السعي الحثيث ليساهم في سدّ حاجات الفقراء والـمساكين وأهل الحاجة من الـمؤمنين والعمل على تحسّس معاناتهم والـمشاركة في دفعها ما استطاع.
وهو موسم لإصلاح ذات البين والتغلّب على الخصومات والـمشاحنات بين أهل الإيمان، وموسم لمضاعفة برّ الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الجيران، وترسيخ الإخاء بين الإخوان.
إخواني وأخواتي، شهر رمضان فرصة ليقبل الإنسان على مجالس العلم والتلقّي من أهل العلم والثقة والفهم. فالـمؤمن الصالح هو الذي يقوم بحقوق اللّه وحقوق العباد، يعرف ما افترض اللّه عليه فيؤدّيه، ويعرف ما حرم اللّه عليه فيجتنبه، يصلي كما أمر اللّه، ويصوم كما أمر اللّه، ويزكّي كما أمر اللّه، ويأمر بالـمعروف وينهى عن الـمنكر، وهذا كلّه يتعلّمه الـمرء بتعلّم علم الدّين.
ومن علامات علوّ الهمّة عند الـمرء اهتمامه بتحصيل العلم الشرعي وصرف الوقت لأجله، يقول اللّه تعالى: ﴿هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ (9)﴾ سورة الزمر، فإنّ من يرد اللّه به خيرًا يفقّهه في الدين، والفقه معرفة النّفس ما لها وما عليها.
ومن علوّ الهمّة الابتعاد عن إضاعة الأوقات، فكثير من الناس في حال الشباب يفسدون، لأن الهوى في تلك البرهة من العمر يكون شديدًا على صاحبه، وأكثر الشباب والشابات لا يخالفون الهوى فينجرّون إلى الفساد.
فمن أراد أن تقوى همّته على فعل الخيرات فليتذكّر دومًا أنّ التمسّك بالحقّ لا يقرّب أجلًا ولا يقطع رزقًا، فالآجال والأرزاق مكتوبة على كلّ أحد قبل أن يولد.
وقد قال الـمحدّث الشيخ عبد اللّه الهرريّ رحمه اللّه: «من لا يخالف نفسه لا يترقّى» أي الذي يمشي مع هوى نفسه لا يصل إلى الدرجات العالية، لذلك على الـمرء أن يصلح ما بينه وبين ربّه ثمّ لا يبالي بما وراء ذلك، قال الإمام الشافعي رضي اللّه عنه: «إنّك لن تبلغ أن ترضي النّاس جميعًا فأصلح ما بينك وبين ربّك، ولا تبال بما وراء ذلك».
وأودّ في هذا السياق أن أذكر لكم ما نصح به أحد العلماء تلميذًا من تلاميذه حيث قال له: «يا ولـدي، إن ملكـت عقلًا حقيقيـًّا ما ملـت إلـى الدنيا وإن مالـت لك، لأنـها خائنـة كذّابة تضحـك على أهلهـا، من مال عنها سلم منـها، ومن مال إليـها بُـلِـيَ فيها. هي كالحيـة ليــّـن لمسها قاتـل سُمّـها، لذّاتـها سريعـة الزوال وأيامــها تمضـي كالخيال. فاشغل نفسـك فيهـا بتقوى اللّه ولا تغفل عن ذكـره تعالى. يا ولـدي، إن تعلـمت وسمعـت نقلًا حسـنًا فاعمل بـه ولا تكن من الذيــن يعلمـون ولا يعـملون. والعـجب ممن يعلم أنّه يموت كيف ينسى الـموت. والعجب ممن يعلم أنه مفــارق الدّنيـا كيف ينكب عليها ويقطع أيّامه بمحبّتها. ضيّعتم الأوقات باللهو والنسيان، وقطعتم الأيّام بالغفلة والعصيان. مـزاحكم مزاح من أمـن النّدامة، ولهوكـم لهو من لم يسمـع بيـوم القيامة. كأنكم إلى القبور لا تنظرون وبمـن سكنـها لا تعتـبرون. يا ولـدي، ما أكلتــه تـفـنيـه، ومـا لبسته تـبليـه، والرجــوع إلـى اللّـــه حتم مقضـــي، وفراق الأحبة وعد مأتي، الدنيا أولهـا ضعف وفتـور، وآخــرها مـوت وقبــور».
في الختام، أسأل اللّه العزيز الكريم أن يقيّض لنا ولأمّتنا سبل النصر على أعداء الخارج والداخل، وأسباب القوّة والـمنعة، ودروب الخلاص من المحن والفتن.
وأسأل اللّه أن يرحمنا برحمته الواسعة ويجعلنا من عباده الـمفلحين وأوليائه الـمتّقين.
اللّهم اجعلنا من الـمقبولين في هذا الشهر الكريم واغفر لنا فيه كلّ ذنب كبير وصغير.
وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.