الـحـمد للّه ربّ العالـمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الـحسن، صلوات اللّه البرّ الرحيـم والـملائكة الـمقربين على سيّدنا محمّد وعلى جميع إخوانه من النبيّين والمرسلين وسلام اللّه عليهم أجمعين.

أما بعد فإن اللّه تعالى قد خلق العباد، منهم المؤمن ومنهم الكافر، وقد أعدّ للكافرين عذابًا أليمًا وهيّأ للمؤمنين العيش الرغيد والنعيم المقيم، وقد وعد اللّه عباده المؤمنين الصالحين دخول الجنّة التي فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، روى البخاري وغيره عن أبي هريرة رضي اللّه عنه أنه قال: قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «قال اللّه تبارك وتعالى أعددتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خَطَرَ على قلبِ بشر» قال أبو هريرة: فاقرؤوا إن شئتم ﴿فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاء بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)﴾ سورة السجدة/17.

وأكبرُ وأعظمُ نعمة يُعطاها العبد في الجنّة رؤية ذات اللّه المقدّس، أما في هذه الدنيا الفانية فقد حجب اللّه عنا ذلك. والكافر لا يرى اللّه لا في الدنيا ولا في الآخرة لأنه كفَرَ ولم يؤمن باللّه تبارك وتعالى.

وقد استدل الإمام الشافعي رضي اللّه عنه على أن المؤمنين يرون اللّه عزّ وجلّ بقوله تعالى:

﴿كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ (15)﴾ سورة المطففين، فإنه إخبار عن الكفار، فإذا كان الكفار حُجبوا عن الرؤية فإن الرؤيةَ ثابتة للمؤمنين بالمقابل بقوله عزّ وجلّ: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)﴾ سورة القيامة، فهذه الآية أيضًا فيها إثبات رؤية المؤمنين للّه عزّ وجلّ.

وقد روى الإمام مسلم أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخل أهلُ الجنّةِ الجنَّةَ يقولُ اللّه تبارك وتعالى: تريدون شيئًا أزيدُكم، فيقولونَ: ألم تُبَيّ‍‍ضْ وجوهَنا؟ ألم تُدْخِلْنا الجنّةَ وتُنجّنا من النّار؟ فيَكشِفُ الحِجابَ -أي المانع المعنوي وليس أن اللّه يكون خلف حجاب حسّي حاشاه-، فما أُعطُوا شيئًا أحبَّ إليهم من النظرِ إلى ربّهم عزّ وجلَّ» ثم تلا هذه الآية ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ سورة يونس/26.

اللّه لا يشبه المخلوقات

إن رؤية المؤمنين للّه تعالى وهم في الجنّة تكون بلا كيف ولا تشبيه ولا جهة وبلا مسافة قريبة أو بعيدة ولا كيفية ولا حجم ولا لون، يرون اللّهَ الذي لا يُشبه شيئًا من المخلوقات، ولا يكون عليهم في هذه الرؤية اشتباه ولا أدنى شكٍ هل الذي رأوه هو اللّه أو غيرهُ كما لا يشك مبصرُ القمر ليلة البدر ليس دونه سحابٌ أن الذي رآه هو القمر، ففي ذلك قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إنكم سترَون ربَّكم كما ترونَ هذا القمرَ لا تُضَامُّونَ في رُؤيته» رواه مسلم.

فقد شبَّه النبيُّ صلى الله عليه وسلم رؤيتنا للّه تعالى مِنْ حيثُ عدمُ الشكّ برؤيتنا للقمر ليلة البدر ليس دونه سحاب، ولم يُشبّه اللّهَ تعالى بالقمر، وبعض الجهال إذا ذُكر أمامهم هذا الحديث يتوهّمون أن اللّهَ يشبه القمر والعياذ باللّه، وقد صرّح بعض الناس بذلك، وهذا من سفه الكلام وهو كفر باللّه العظيم، فحاشا أن يكون اللّه شبيهًا للقمر أو لغيره من المخلوقات وهو الذي وصف نفسه في القرءان الكريم فقال عزّ وجلّ: ﴿لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَىْءٌ﴾ سورة الشورى/11، أي أن اللّه لا يُشبه شيئًا من خلقه ولا يشبهه شىء من خلقه.

واعلم أنّه لا يجوز تفسير ﴿نَاظِرَةٌ (23)﴾ في قوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)﴾ سورة القيامة بنظر التفكر والاعتبار بخلافه في قوله تعالى: ﴿أَفَلا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17)﴾ سورة الغاشية، لأن الدنيا دار عمل والآخرة دار حساب، وكذلك لا يجوزُ أن يكون بمعنى الانتظار كما في قوله تعالى: ﴿مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً﴾ سورة يس/49، لأنه لا يجوزُ تأويل النصّ أي إخراجُه عن ظاهره لغير دليل عقليّ قاطع أو سمْعيّ ثابت كما قال الرازيّ وغيره، ولأنه ليس في شىء من أمر الجنّة انتظارٌ، بل ينال المرءُ فيها ما تشتهيه نفسُهُ بدون انتظار لأن الانتظار معه تنغيص وتكدير، والآية: ﴿إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)﴾ سورة القيامة، خرجت مخرج البشارة للمؤمنين، وأهل الجنّة لهم فيها ما يشتهون.

الدليل على جواز رؤية اللّه في الآخرة

ومما يدل على أن اللّه عزّ وجلّ يُرى بالأبصار قول اللّه حكاية عن سيّدنا موسى: ﴿رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ﴾ سورة الأعراف/143، لأنه لا يجوز على نبيّ من الأنبياء أن يسأل ربَّه ما يستحيل في حقه تعالى، فعلمنا من ذلك أن سيّدنا موسى عليه الصلاة والسلام لم يسأل ربَّه مستحيلًا وأن الرؤيةَ جائزة، والدليل على ذلك أيضًا قول اللّه تعالى لموسى عليه السلام: ﴿فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾ سورة الأعراف/143، فلما كان اللّه قادرًا على أن يجعل الجبل مستقرًّا كان قادرًا على أن يمكّن نبيَّه موسى من أن يراه، فدلّ ذلك على أن اللّه قادر على أن يخلق في عباده المؤمنين قوة رؤيته سبحانه، فقوله تعالى لموسى: ﴿لَن تَرَانِي﴾ سورة الأعراف/143، أراد به في الدنيا دون الآخرة بدليل قوله تعالى: ﴿فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي﴾، سورة الأعراف/143، أما عن الآخرة فقد قال عزّ وجلّ: ﴿تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ﴾ سورة الأحزاب/44، فالتحية مع اللقاء يعطي معنى الرؤية، يرون اللّه وهم في الجنّة، أما اللّه تعالى فمنزّه عن المكان.

وليس معنى اللقاء في هذه الآية اجتماعهم باللّه لأن اللّه تعالى لا يوصف بالجسم بل اللقاء بمعنى الرؤية للّه حالَ كونِ المؤمنين في الجنّة. وأما قول اللّه عزّ وجلّ: ﴿لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ سورة يونس/26، فالمرادُ بالحسنى جنّة النعيم، والزيادة فسّرها الرسول الأكرم صلى الله عليه وسلم برؤية اللّه تبارك وتعالى كما في صحيح مسلم وغيره، وقد روى مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: «لن يرى أحدٌ منكم ربَّه عزّ وجلّ حتى يموتَ».

واعلم أن ما أثبتَه اللّه تعالى في القرءانِ وجاء بهِ نبيّنا صلى الله عليه وسلم حقّه التسليم والقَبول، ومن ذلك رؤية اللّه عزّ وجلّ الذي لا يشبه شيئًا، ولا مُسوغ لنفي رؤية اللّه بعد قول رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «إنَّكم سترونَ ربَّكم» كما رواه مسلم، وهذا زيادة في التكريم للمؤمنين في الجنّة، ولكن ليست رؤيتنا للّه تعالى كرؤية بعضنا بعضًا وليست اجتماعًا باللّه كاجتماع المصلّين بإمامهم في المسجد، لأن اللّه تعالى يستحيل عليه السكنى في مكان.

قال الإمام أبو حنيفة رضي اللّه عنه في الفقه الأكبر: «واللّه تعالى يُرى في الآخرة ويراه المؤمنون وهم في الجنّة بأعين رؤوسهم بلا تشبيه ولا كيفية ولا يكون بينه وبين خلقه مسافة».

وقال الإمام مالك رضي اللّه عنه: «لا يُرى الباقي -يعني اللّه- بالعين الفانية وإنما يُرى بالعين الباقية في الآخرة» أي أن عيون أهل الجنّة لا يلحقها الفناء لأنهم لا يموتون إلى أبد الآبدين.

وقال الإمام الغزالي رحمه اللّه في كتابه «قواعد العقائد» في مسئلة الرؤية: «العلم بأنه تعالى مع كونه منزّهًا عن الصورة والمقدار، مقدّسًا عن الجهات والأقطار، مرئي بالأعين والأبصار في الدار الآخرة دار القرار لقوله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)﴾ -سورة القيامة- ولا يُرى في الدنيا تصديقًا لقوله عزّ وجلّ: ﴿لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ﴾ سورة الأنعام/103، ولقوله تعالى في خطاب موسى عليه السلام: ﴿لَن تَرَانِي﴾» سورة الأعراف/143، فما أجهلَ المعتزلةَ لنفيهم رؤية اللّه تعالى، ثم قال الغزالي: «وليت شعري كيف عرف المعتزلي من صفات ربّ الأرباب بزعمه ما جهله موسى عليه السلام؟ وكيف سأل موسى عليه السلام الرؤية إذا كانت محالًا»؟!.