إن الماضي في صفحات، وفي التاريخ عبر وعظات. وهجرة الرسول المباركة هي واحدة من تلك العبر والعظات. والأمة الإسلامية تمر اليوم بمرحلة من أدق مراحل تاريخها وهي لذلك أحوج ما تكون للاستفادة من دروس الهجرة المباركة وعبرها.

لقد كانت الهجرة إيذانًا بأن صولة الباطل مهما عظمت وقوّته مهما بلغت فمصيرها إلى الزوال ونهايتها إلى الفشل والبوار، وإيذانًا بأن الحق لا بد له من يوم يحطم فيه الأغلال وتعلو رايته وترتفع كلمته، كيف لا، والله سبحانه وتعالى قد وعد المؤمنين بالنصر المبين، قال الله تعالى: {إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ ءامَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ}.

 

الحمد لله الذي أعزنا بالإسلام وجعلنا من أمة محمد خير الأنام.

يقول الله تبارك وتعالى: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [سورة التوبة / ءاية 40].

لقد جاءت هجرة الرسول ﷺ بأمر من ربه عز وجل لتعلن نهاية عهد الاضطهاد والاستبداد وبداية فجر مشرق وعهد مجيد. ومن هناك، من يثرب، انبثق نور الدعوة قويًا وضّاء فبدّد الظلم وجاز ما اعترضه من عقبات. وانطلقت كلمة الحق تحملها القوافل وتبشر بها أصوات الدعاة إلى الصلاة في كل أذان حتى أتم الله على المسلمين النعمة وجاب عنهم كل محنة ودخل الناس في دين الله أفواجًا وأذن مؤذن الحق في إباء وعزة:

الله أكبر الله أكبر، جاء الحق وزهق الباطل.


بطلان مكر الماكرين:

أتى جبريل عليه السلام رسول الله ﷺ فقال: لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه، قال فلما كانت عتمة من الليل اجتمع المشركون على بابه يرصدونه حتى ينام فيثبون عليه، فلما رأى رسول الله ﷺ مكانهم قال لسيدنا علي بن أبي طالب: نم على فراشي وتسج (أي تغط) ببردي هذا الحضرمي الأخضر فنم عليه فإنه لن يخلص إليك بشىء تكرهه منهم. وكان رسول الله ﷺ ينام في برده ذلك إذا نام، فلما اجتمعوا وفيهم أبو جهل بن هشام، فقال وهم على بابه: إن محمدًا يزعم أنكم إن تابعتموه على أمره كنتم ملوك العرب والعجم ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم كجنان الأردن، وإن لم تفعلوا كان له فيكم ذبح ثم بعثتم من بعد موتكم فجعلت لكم نار تحرقون فيها، قال وخرج عليهم رسول الله ﷺ فأخذ حفنة من تراب في يده ثم قال: نعم أنا أقول ذلك وأنت أحدهم وأخذ الله أبصارهم عنه فلا يرونه فجعل ينثر ذلك التراب على رؤوسهم وهو يتلو هذه الآيات: {يس {1} وَالْقُرْءانِ الْحَكِيمِ {2} إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ} [سورة يس] إلى قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ} [سورة يس] حتى فرغ رسول الله ﷺ من هؤلاء الآيات ولم يبقَ رجل منهم إلا وقد وضع على رأسه ترابًا، ثم انصرف إلى حيث أراد أن يذهب، فأتاهم ءات ممن لم يكن معهم فقال: وما تنتظرون ها هنا؟ قالوا: محمدًا، قال: قد خيبكم الله، قد والله خرج عليكم محمد ثم ما ترك منكم رجلاً إلا وقد وضع على رأسه ترابًا وانطلق لحاجته أفما ترونها بكم. قال: فوضع كل رجل منهم يده على رأسه فإذا عليه تراب، ثم جعلوا يطلعون فيرون عليًا على الفراش متسجيًا ببرد رسول الله ﷺ، فيقولون والله إن هذا لمحمد نائمًا، عليه برده، فلم يزالوا كذلك حتى أصبحوا فقام علي عن الفراش فقالوا: والله لقد صدقنا الذي كان حدّثنا، فكان مما أنزل الله من القرءان في ذلك: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [سورة الأنفال/ءاية30] معنى والله خير الماكرين: فالمكر من الخلق: خبث وخداع لايصال الضرر إلى الغير باستعمال الحيلة. وأما من الله تعالى فهو مجازاة الماكرين بالعقوبة من حيث لا يدرون. وبعبارة أخرى، إن الله أقوى في إيصال الضرر إلى الماكرين من كل ماكر جزاء لهم على مكرهم. فالمكر بمعنى الاحتيال مستحيل على الله لأن الله منزّه عن صفات النقصان.


الصحبة يا رسول الله:

قال النبي ﷺ للمسلمين: “إني أريت دار هجرتكم ذات نخل بين لاَبَتَيْن”، وهما الحَرَّتان (اللابة: الحرَّة، وهي الأرض ذات الحجارة السوداء). فهاجر من هاجر قِبل المدينة ورجع عامة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة، وتجهز أبو بكر قِبل المدينة فقال له رسول الله ﷺ: “على رِسلك فإني أرجو أن يُؤْذن لي”. فقال أبو بكر: وهل ترجو ذلك بأبي أنت؟ قال نعم. فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله ﷺ ليصحبه وعلف راحلتين كانتا عنده ورق السَّمُر هو الخبط (وهو الورق الساقط المتناثر من الشجر) أربعة أشهر.

قالت عائشة رضي الله عنها: فبينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في نحر الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله متقنعًا في ساعة لم يكن يأتينا فيها. فقال أبو بكر: فداء له أبي وأمي، والله ما جاء به في الساعة إلا أمرٌ. قالت: فجاء رسول الله ﷺ فاستأذن فأذن له فدخل فقال رسول الله ﷺ لأبي بكر: “اخرج من عندك” فقال أبو بكر: إنما هم أهلك بأبي أنت وأمي يا رسول الله، قال رسول الله: “نعم”. قال أبو بكر: فخذ بأبي أنت يا رسول الله إحدى راحلتي هاتين. قال رسول الله: “بالثمن”.


حديث أم معبد:

عن أبي معبد الخزاعي أن رسول الله ﷺ لما هاجر من مكة إلى المدينة هو وأبو بكر وعامر بن فهيرة مولى أبي بكر ودليلهم عبد الله بن أريقط الليثي فمروا بخيمةِ أم معبد الخزاعية، وكانت امرأة جلدة برزة تحتي وتقعد بفناء الخيمة تسقي وتطعم، فسألوها تمرًا ولحمًا يشترون فلم يصيبوا عندها شيئًا من ذلك، فإذا القوم مرملون مسنتون (أي أصابهم جدب وشدة) فقالت: والله لو كان عندنا شىء ما أعوزكم القرى. فنظر رسول الله ﷺ إلى شاة في كسر الخيمة فقال: “ما هذه الشاة يا أم معبد” قالت: هذه شاة خلّفها الجهد عن الغنم. فقال: “هل بها من لبن”؟ قالت: هي أجهد من ذلك. قال: أتأذنين لي أن أحلبها؟ قالت: نعم بأبي أنت وأمي إن رأيت بها حلبًا. فدعا رسول الله ﷺ بالشاة فمسح ضرعها وذكر اسم الله، وقال: “اللهم بارك لها في شاتها”. قالت: فتفاجت ودرت واجترت فدعا بإناء لها يربض (أي يرويهم) الرهط فحلب فيه ثجاً فسقاها فشربت حتى رويت وسقى أصحابه حتى رووا وشرب رسول الله ﷺ ءاخرهم وقال ساقي القوم ءاخرهم شربًا فشربوا جميعًا حتى أراضوا ثم حلب فيه ثانيًا عودًا على بدء فغادره عندها حتى ارتحلوا عنها فقلما لبثت حتى جاء زوجها أبو معبد يسوق أعنزًا حيلاً عجافًا هزلى، فلما رأى اللبن عجب فقال: من أين لك هذا والشاة عازبة ولا حلوبة في البيت. قالت: لا والله إلا أنه مر بنا رجل مبارك كان من حديثه كيت وكيت قال: والله إني لأراه صاحب قريش الذي يُطلب، صفيه لي يا أم معبد قالت: رأيت رجلاً ظاهر الوضاءة، حسن الخلق، وسيم، قسيم، في عينيه دعج، وفي أشفاره وطف، شديد سواد الشعر، في عنقه سطع، وفي لحيته كثاثة، إذا صمت فعليه الوقار وإذا تكلم سما وعلاه البهاء، حلو المنطق، أجهر الناس وأجملهم من بعيد وأحلاهم وأحسنهم من قريب وأحسنهم قدرًا، له رفقاء، يحفّون به إذا قال استمعوا لقوله وإن أمر تبادروا إلى أمره. قال: هذا والله صاحب قريش الذي ذكر لنا من أمره ما ذكر، ولو كنت وافقته لالتمست أن أصحبه ولأفعلن إن وجدت إلى ذلك سبيلاً. ثم قيل إن أم معبد هاجرت إلى النبي ﷺ وأسلمت.


ليلة غار ثور:

ليلة الغار أمر الله شجرة فنبتت أمام وجه النبي ﷺ فسترته، وأمر الله حمامتين وحشيتين فوقفتا بفم الغار. وأقبل فتيان قريش من كل بطن بعصيهم وهراويهم وسيوفهم حتى إذا كانوا من النبي ﷺ على أربعين ذراعًا، تعجل بعضهم ينظر في الغار فلم ير إلا حمامتين وحشيتين ونسيج العنكبوت، فظن أنه ليس فيه أحد، فسمع النبي ﷺ ما قال فعرف رسول الله ﷺ إن الله عز وجل قد درأ عنه قال أبو بكر لرسول الله وهو في الغار: “لو أن أحدهم نظر إلى تحت قدميه لأبصرنا تحت قدميه” فقال النبي: “يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما؟”.

قال سراقة: جاءنا رسل كفار قريش يجعلون في رسول الله ﷺ وأبي بكر دية كل واحد منهما لمن قتله او أسره. وقال رجل منهم: يا سراقة إني قد رأيت ءانفًا أسودة (أشخاصًا) بالساحل أراها محمدًا وأصحابه، قال سراقة فعرفت أنهم هم. أخذت رمحي فخرجت به حتى أتيت فرسي فركبتها حتى دنوت منهم فعثرت بي فرسي فخررت عنها فقمت حتى إذا سمعت قراءة رسول الله ﷺ وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات ساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغتا الركبتين فخررت عنها.

قال أبو بكر: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا فقال: “لا تحزن إن الله معنا” (أي بالعلم والنصر والتأييد). حتى إذا دنا منا وكان بيننا وبينه قيد رمح أو رمحين أو ثلاثة قلت: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا وبكيت فقال: لماذا تبكي؟ قلت أما والله ما على نفسي أبكي ولكن أبكي عليك. قال فدعا عليه (أي على سراقة) رسول الله ﷺ فقال: “اللهم اكفناه بما شئت”، فساخت قوائم فرسه إلى بطنها في أرض صلدة ووثبت عنها وقال يا محمد قد علمت أن هذا عملك فأدع الله عز وجل أن ينجيني مما أنا فيه، فوالله لأعمين على من ورائي من الطلب، وهذه كنانتي فخذ منها سهمًا فإنك ستمر بإبلي وغنمي في موضع كذا وكذا فخذ منها حاجتك، فقال رسول الله ﷺ: «لا حاجة لي فيها». قال ودعا له رسول الله ﷺ فانطلق ورجع إلى أصحابه.

قال ابن شهاب أخبرني عروة بن الزبير أن رسول الله ﷺ لقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارًا قافلين من الشام فكسا الزبير رسول الله ﷺ وأبا بكر ثيابًا بياضًا، وسمع المسلمون بالمدينة بمخرج رسول الله ﷺ من مكة فكانوا يغدون كل غداة إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة فانقلبوا يومًا بعدما أطالوا انتظارهم، فلم أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من اليهود على أطم (الحصن) من ءاطامهم لأمر ينظر إليه، فبصر برسول الله ﷺ وأصحابه مبيضين يزول بهم السراب، فلم يملك اليهودي أن قال بأعلى صوته: يا معشر العرب هذا جدكم الذي تنتظرونه، فثار المسلمون إلى السلاح فتلقوا رسول الله ﷺ بظهر الحرة. فعدل بينهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف، وذلك يوم الاثنين في شهر  ربيع الأول.

فلبث رسول الله ﷺ في بني عمرو بن عوف بضع عشرة ليلة، وأسس المسجد الذي أسس على التقوى، وصلى فيه رسول الله ﷺ، ثم ركب راحلته، فسار يمشي معه الناس حتى بركت عن مسجد الرسول بالمدينة وهو يصلي فيه يومئذ رجال من المسلمين وكان مبردًا للتمر لسهل وسهيل غلامين يتيمين في حجر أسعد بن زرارة، فقال رسول الله ﷺ حين بركت به راحلته: “هذا إن شاء الله المنزل”، ثم دعا رسول الله ﷺ الغلامين فساومهما بالمربد ليتخذه مسجدًا، فقالا: بل نهبه لك يا رسول الله، فأبى رسول الله ﷺ أن يقبله منهما هبة حتى ابتاعه منهما، ثم بناه مسجدًا، وطفق رسول الله ﷺ ينقل معهم اللبن في ثيابه ويقول وهو ينقل: اللهم إن الأجر أجر الآخرة فاغفر للأنصار والمهاجرة

وكانت الانصار يوم الخندق تقول: نحن الذين بايعوا محمدًا على الجهاد ما حيينا أبدا

فأجابهم النبي ﷺ: “اللهم لا عيش إلا عيش الآخـرة فأكرم الأنصـــار والمهــاجــرة”.

نزل رسول الله ﷺ في بني عمرو بن عوف بقباء، فأقام  فيهم بضع عشرة ليلة وقال عروة: مكث بقباء ثلاث ليال، ثم ركب يوم الجمعة فمر على بني سالم فجمع بهم، وكان أول جمعة صلاها حين قدم المدينة، ثم ركب في بني سالم فمرت الناقة حتى بركت في بني النجار على دار أبي أيوب الأنصاري فنزل عليه في سفل داره، وكان أبو أيوب في العلو حتى ابتنى رسول الله ﷺ مسجداً ومساكنه.

وعن سهل بن سعد قال: ما عدوا من منبعث النبي ﷺ ولا من وفاته ما عدوا إلا من مقدمه المدينة فأرخوا التاريخ من هجرة النبي ﷺ وكان شهر محرم هو أول شهر من السنة الهجرية.


المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار:

قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَالَّذِينَ ءاوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} [سورة الأنفال/ءاية 72].

وعندما وصل الرسول مع صاحبه الصديق أبي بكر إلى يثرب المدينة المنورة خرج المؤمنون من أهلها مرحبين بقدوم النبي الكريم وصاحبه الوفي واستبشروا بقدومهما وقدوم الأصحاب كل خير، وضرب هؤلاء مع إخوانهم المهاجرين أروع أمثلة في التضحية والأخوة والتحابب والتباذل في سبيل الله.

لقد جمعهم الإسلام ووحدتهم العقيدة، وألّف النبي بين قلبهم حتى صاروا على قلب رجل واحد لا يفرق بينهم طمع ولا دنيا. ولا يباعد بينهم حسد ولا ضغينة. مثلهم كمثل البنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا، ومثلهم في توادهم وتعاطفهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى، وأحاديث النبي ﷺ الكثيرة والآيات القرءانية تدل على فضلهم ومدحهم.

قال الله تعالى: {لِلْفُقَرَاء الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ اللهِ وَرِضْوَانًا وَيَنصُرُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ {8} وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة الحشر].

وعن أنس رضي الله عنه أنه قال: قدم علينا عبد الرحمن بن عوف وءاخى رسول الله بينه وبين سعد بن الربيع وكان كثير المال فقال سعد: قد علمت الأنصار أني من أكثرها مالاً سأقسم مالي بيني وبينك شطرين ولي امرأتان فانظر أعجبهما إليك فأطلقها حتى إذا حلت تزوجتها، فقال عبد الرحمن: بارك الله لك في أهلك، فلم يرجع يومئذ حتى أفضل شيئًا من سمن وأقط فلم يلبث إلا يسيرًا حتى جاء رسول الله ﷺ فقال لرسول الله ﷺ: تزوجت امرأة من الأنصار فقال له: “أولم ولو بشاة”.

وقالت الأنصار: اقسم بيننا وبينهم النخل قال: لا، قال: تكفونا المؤنة وتشركونا في التمر، قالوا: سمعنا وأطعنا.


حب الانصار من الإيمان:

قال رسول الله ﷺ: “الأنصار لا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق فمن أحبهم أحبه الله ومن أبغضهم أبغضه الله”. وفي رواية: “ءاية الإيمان حب الأنصار وءاية النفاق بغض الأنصار”.


ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة:

عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رجلاً أتى النبي ﷺ فبعث إلى نسائه فقلن: ما معنا إلا الماء فقال رسول الله ﷺ: “من يضم أو يضيف هذا” فقال رجل من الأنصار أنا، فانطلق به إلى امرأته فقال: أكرمي ضيف رسول الله ﷺ فقالت: ما عندنا إلا قوت صبياني فقال: هيئي طعامك وأصبحي سراجك ونومي صبيانك إذا أرادوا عشاء فهيأت طعامها وأصبحت سراجها ونومت صبيانها ثم قامت كأنها تصلح سراجها فأطفأته فجعلا يريانه أنهما يأكلان فباتا طاويين، فلما أصبح غدا إلى رسول الله ﷺ فقال: عجب الله منت فعالكما فأنزل الله: {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [سورة الحشر].


اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم:

عن ابن عباس رضي الله عنهما يقول خرج رسول الله ﷺ وعليه ملحفة متعطفًا بها (أي مرتديًا) على منكبيه وعليه عصابة دسماء (أي عمامة سوداء) حتى جلس على المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: “أما بعد أيها الناس فإن الناس يكثرون وتقل الأنصار حتى يكونوا كالملح في الطعام فمن ولي منكم أمرًا يضر فيه أحدًا أو ينفعه فليقبل من محسنهم ويتجاوز عن مسيئهم”. ومن أدعية النبي ﷺ للمدينة: “اللهم حبب إلينا المدينة كحبنا مكة …”.


أفضل الصحابة:

ثم إن النبي ﷺ جلس على المنبر فقال: “إن عبدًا خيره الله بين أن يؤتيه زهرة الدنيا ما شاء وبين ما عنده فاختار ما عنده “فبكى أبو بكر وقال: فديناك بآبائنا وأمهاتنا فعجبنا له: وقال الناس انظروا إلى هذا الشيخ يخبر رسول الله ﷺ عن عبد خيره الله بين أن يؤتيه من زهرة الدنيا وبين ما عنده وهو يقول فديناك بآبائنا وأمهاتنا فكان رسول الله ﷺ هو المخير وكان أبو بكر هو أعلمنا به. وقال رسول الله ﷺ:  “إن مِن أمَنّ الناس علي في صحبته وماله أبا بكر ولو كنت متخذًا خليلاً من أمتي لاتخذت أبا بكر إلا خلة الإسلام لا يبقين في المسجد خوخة إلا خوخة أبي بكر” (معنى الخوخة: الباب الصغير).


مدح السابقين الأولين:

روى الترمذي في جامعه من حديث سليمان بن يسار رحمه الله تعالى قال: قام فينا عمر بن الخطاب بالجابية خطيبًا فقال: قام فينا رسول الله ﷺ قال: “أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم فمن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة”. هذا الحديث الصحيح هو شرح لقول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ} [سورة التوبة/ءاية 100] أثنى الله تبارك وتعالى على السابقين الأولين من المهاجرين أي أصحاب رسول الله الذين هاجروا من مكة إلى المدينة مؤازرة لرسول الله ونصرة لدينه حين كانت الهجرة فرضًا على المسلمين المستطيعين، قد أثنى الله عليهم وأخبرنا بأنه رضي عنهم وأثنى على الأنصار أهل المدينة الذين ءازروا رسول الله ﷺ ومن تبع هؤلاء.

الله تبارك وتعالى أخبرنا بأنه راض عن السابقين الأولين من المهاجرين ومن الأنصار وعن الذين اتبعوهم بإحسان أي على ما كانوا عليه في الاعتقاد والصدق في العمل وهم التابعون وأتباع التابعين. هؤلاء الثلاثة هم خير أمة محمد ومدة هؤلاء قال بعض العلماء مائتان وعشرون سنة من مبعث النبي ﷺ وقال بعض ثلاثمائة، وعلى هذا يفسر الحديث المتفق عليه المشهور: “خير القرون قَرْني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم” بمن كانوا من أهل الثلاثمائة سنة فهؤلاء شهد لهم رسول الله ﷺ بالأفضلية وأوصى أمته بأن يكرموهم لقوله فيما رواه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم” لا يكون قرن من القرون من أمة محمد خيرًا من هؤلاء بل هؤلاء أفضل أمة محمد.

وكان الرسول يحدث أصحابه أحيانًا وهو جالس وأحيانًا وهو قائم على المنبر أو على غير المنبر وكل ذلك سنة. وفي هذه الخطبة التي خطبهم رسول الله ﷺ قائمًا واقتدى به عمر فخطب من كان معه بالجابية (وهي أرض من بلاد الشام) فروى عمر عن رسول الله ﷺ في هذه الخطبة أنه قال: “أوصيكم بأصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم” وفي لفظ: “أكرموا أصحابي ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم” فينبغي للمسلم أن يعتني بمعرفة ما كان عليه أهل القرون الثلاثة لأن الرسول شهد لهم بالخيرية والأفضلية وذلك لأنهم كانوا أتقى ممن بعدهم.

وأولى ما يتبع به أولئك الذين شهد لهم رسول الله ﷺ التمسك بالعقيدة التي كانوا عليها.

فمن الأئمة البارزين الذين كانوا من أهل القرون الثلاثة هؤلاء الأئمة الأربعة أبو حنيفة النعمان ومالك بن أنس إمام دار الهجرة والشافعي محمد بن إدريس وأحمد بن حنبل رضي الله عنهم وجزاهم عن الإسلام خيرًا.

ثم بعد الثلاثمائة ظهر أئمة خدموا عقيدة أولئك الصحابة والتابعين وأتباع التابعين بزيادة إيضاح وإيراد الأدلة العقلية مع الأدلة النقلية من القرءان والحديث.

كان من المهاجرين من ترك الدار والمال والأهل والولد والمتاع ابتغاء مرضاة الله. فماذا قدم الأنصار؟ لقد استقبل الأنصار إخوانهم المهاجرين ومدوا لهم يد المساعدة والعون حتى كان الأنصاري يقسم ماله ومتاعه بينه وبين أخيه المهاجر.

فماذا فعلنا نحن مع إخواننا المحتاجين والمهجرين والمعوزين؟


الصبر والصمود في وجه الباطل:

إن الدروس المستفادة من الهجرة كثيرة ومن جملتها ضرورة الصبر على الشدائد والبلايا وكافة أنواع الظلم والاستبداد والصمود في وجه الباطل والثبات في ميدان الجهاد والكفاح والوقوف إلى جانب الحق في شجاعة وحزم وصرامة وعزم. وإن احتفالنا بهذه الذكرى في الظروف الحالية التي تمر بها الأمة يبعثنا على مضاعفة التضحية والفداء والمصابرة على مقاومة الأعداء وإزالة أثر الاعتداء والتمكن من أسباب القوة والسيادة حتى يأتي عام الهجرة المقبل ونحن أرفع رأسًا وأشد بأسا.