الحمْدُ للّهِ الذِي مَنَّ عَلَينَا بالإِسلامِ وأَكرمنَا بشَهْرِ الصِّيامِ والصَّلاةُ والسَّلامُ على المبعوثِ رحمةً للعالـمين سيّدِ الأولينَ والآخِرينَ وعلى آلهِ وصحبِهِ الغُرّ المياميِنِ ومَنْ تَبِعَهُم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ.
أما بعد فيَقُولُ الـحـبـِيبُ الــمُــصـطـفَى صلى الله عليه وسلم: «للصَائمِ فَرحتَانِ يفرحُهُما، إذا أفطرَ فَرِحَ بفِطْرِه وإذا لَقِيَ ربَّهُ فَرِحَ بصومِهِ» رواه النسائي.
بعدَ أنْ أنارَ أيامَنا بأنوارِهِ الـمُشرقةِ ها هُو شهرُ رمضانَ أفضلُ الشُّهورِ قد رَحَلَ مُدْبِرًا فأكرِمْ وأنعِمْ بهِ مِنْ شَهْرٍ فيه صُفِّدَتْ الشَّياطِينُ وفُتِّحَتْ أبوابُ الجِنانِ وغُلّقَتْ أبوابُ النِّيرانِ، فَطُوبَى لمنْ أَطَاعَ ربَّهُ في هذا الشَّهْرِ الـمُبارَكِ، وأمضَى أوقاتَهُ في صيامٍ وصلاةٍ وتعلُّمٍ وذِكْرٍ وتِلاوةٍ، وطُوبى لـمَنْ بذَلَ مِنْ أموالِهِ لإِغاثَةِ الـمَلهُوفينَ ونجْدَةِ الـمُحتاجِينَ ومَعُونةِ الفقراءِ وسدّ الضَّروراتِ وتحقيقِ الـمَصالحِ العامَّةِ.
نُوَدّعُ شهرَ رمضانَ الـمُبارَكَ ونَسْتَقْبِلُ عيدَ الفِطْرِ السعيد فحريٌّ بنا أَنْ نُوَطّدَ أنفُسَنَا عَلَى جَعْلِ أيَّامِنا كُلّها بعدَ رمضانَ أيَّامًا تُزيّنُها التَّقْوَى، تَقْوَى اللّهِ الذي ليسَ كمثلِه شىءٌ والذِي لا يحتَاجُ إلينا سُبحانَه، بل نحنُ نحتاجُ إليهِ في كُلِّ لحظَةٍ وحِينٍ، واللهُ سبحانَهُ وتَعَالَى يَقُولُ: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15)﴾ سورة فاطر.
وكمَا اجتمَعَتْ صفوفُنا في الـمَساجِدِ في شَهْرِ رَمضانَ فلنعْمَلْ عَلَى توحِيدِ جُهُودِنا وجمْعِ كَلِمَتِنا في كُلّ شُهورِ السَّنَةِ وفصُولِها ولْنَتَذَكّرَ قولَ اللّه تعالى: ﴿وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ سورة الأنفال/46.
إنَّ هذه الأيامَ التّي تمرّ على المسلمِينَ وعلَى بلادِنا وأُمَّتِنا هيَ أيامٌ عصيبَةٌ تَشُوبُها المِحَنُ والفتنُ وتكثُرُ فيها الاضطرَاباتُ والصّراعاتُ والخِلافاتُ، وفيها يَتَمَيَّزُ الصَّادقُ معَ اللّهِ، ويَتَمَيَّزُ ذوو التضحياتِ والإخلاصِ، ويَتَمَيَّزُ الذين يَهُمُّهُم ويَشْغَلُ بالَهم مَشاكِلُ الـمُسلمينَ ومَصَالحُهُم.
في عيدِ الفِطْرِ الـمُبارَكِ أودُّ أنْ أُشيرَ إلى عَظَمَةِ الإسلامِ عَقِيدَةً وشَرِيعَةً ومَنْهَجًا للحَيَاةِ، والإسلامُ هذا الدّينُ العظِيمُ الذِي ارتضَاهُ اللّهُ لعبادِهِ لم يَكُنْ في يَوْمٍ مِنَ الأيَّامِ سببًا للانحطَاطِ والضَّعْفِ.
إنَّ التَدَيُّنَ شَىءٌ حسَنٌ عظِيمٌ وحَاجَةٌ وَضَرُورَةٌ لأنَّهُ يُنَوّرُ القُلُوبَ ويُهَذِّبُ النُّفوسَ، ويُنقِذُ مِنِ اتباعِ الهَوَى، قَال اللهُ تعالى: ﴿وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)﴾ سورة النازعات، وليسَ الـمُرادُ بالتَدَيُّنِ الغُلُوَّ والتَطَرُّفَ اللذَيْنِ نرَى نتائِجَهُمَا وآثارَهمَا الـمُدَمّرَةَ في العَديدِ منَ البُلدان.
إنَّ الإسلامَ هو دينُ اعتدالٍ ووسطِيَّةٍ، وهذا هُوَ نهْجُنا في جمعيةِ الـمَشاريعِ الخيريَّةِ الإسلاميَّةِ، ومَسَارُنا هُوَ بناءُ الـمُؤَسَّسَاتِ وتَوجِيهُ النَّاسِ التَوجيهَ السَّليمَ، وهذا هوَ العَمَلُ الأَسَاسُ للجَمْعِيَّةِ، العمَلُ الذي جمَعَ حولَها القُلُوبَ دَعْمًا وتَأييدًا وثقةً بِمَنْهَجِها وعِلْمِها.
وَقَدِ ارتَضَتْ هذه الجَمعيَّةُ الـمُباركَةُ أنْ تهتَمَّ بتثقِيفِ النَّاسِ وتَوْعِيَتِهِم ليُمَيّزُوا بينَ التَّطَرُّفِ والاعتدَالِ، وبينَ الاعتدالِ والانحِلالِ. وسَلَكْنا الـمَسْلَكَ التَّربَوِيَّ مِنْ خِلالِ بناءِ الـمُؤَسَّسَاتِ التَّربَوِيَّةِ لتنشِئَةِ الأَجيالِ عَلَى النَّهْجِ السَّلِيمِ.
يقولُ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: «للصَّائِمِ فرحتانِ يَفرَحُهُما، إذا أفطَرَ فرِحَ بفطرِهِ، وإذا لقِيَ ربَّهُ فرِحَ بصومِهِ» رواه النسائي.
ليُبادِرْ أحدُنا في يومِ عيدِ الفِطْرِ إلى العَفْوِ عَمَّنْ ظلَمَهُ والإِحسانِ إلى مَنْ أساءَ إليهِ.
ولْيُبادِرْ إلى صِلَةِ الأرحامِ، يَقُولُ اللّه تَعالَى: ﴿وَاتَّقُواْ اللَّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ﴾ سورة النساء/1، أيْ واتقُوا الأرْحامَ أنْ تَقْطَعُوهَا. ويقولُ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم فيما رواهُ الطبرانيُ والبزار: «مَنْ كانَ يُؤْمِنُ باللّهِ واليومِ الآخِرِ فلْيَصِلْ رَحِمَه».
وقالَ صلى الله عليه وسلم لأَحَدِ أصحابِهِ: «أَطْعِمِ الطعامَ وأفشِ السَّلامَ وصِلِ الأرحامَ وصَلّ بالليلِ والناسُ نيامٌ تدخلِ الجنةَ بسلامٍ» رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ.
والمرادُ بالرَّحِمِ الأقاربُ كالجَدَّاتِ والأجدادِ، والخالاتِ والعَمَّاتِ، والأخوالِ والأعمامِ وأولادِهم. فأرحامُ الشَّخْصِ كُلُّ قرابةٍ له من جهةِ الأبِ ومن جهةِ الأُمِّ، ولو كانوا غيرَ وارِثينَ. ويَدْخُلُ في الصلةِ غيرِ الزيارِةِ والـمُراسلةِ الإحسانُ إلى المحتاجِ منهم قَدْرَ الاستطاعَة. فمَنْ عَلِمَ أنَّ في رَحِمهِ مَنْ هُوَ فقيرٌ مُحتاجٌ وكانَ عندَه ما يَزِيدُ ويَفْضُلُ عن حاجاتهِ ولم يُسَاعِدْهُ مَعَ عِلْمهِ بحاله فإنَّه يكونُ قاطعَ رَحِم. وقطيعةُ الرَّحِمِ من الكبائرِ بالإجماعِ. وقاطعُ الرَّحِمِ وَرَدَ الحديثُ الصَّحِيحُ في حَقِّهِ أنهُ لا يدخُلُ الجَنَّةَ مَعَ الأَوَّلين. قالَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: «لا يدخُلُ الجنَّةَ قاطِع»، أيْ قاطِعُ رَحِم، أيْ لا يدخُلُ الجَنَّةَ مَعَ الأَوَّلين، بل يدخُلُها بعدَ أنْ يأخُذَ نصيبَهُ منَ العذاب.
وممَّا ينبغِي للمُؤمنِ أنْ يُحْسِنَ إلى رَحِمهِ التي أدبَرَتْ لأنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ للمؤمنِ أنْ يَعْمَلَ المعروفَ مَعَ الذي يعرفُ له المعروفَ ومع الذي لا يعرفُ له المعروفَ.
هذا وقد أوصانا مولانا المُرَبي الشيخُ عبدُ اللّه الهرريُّ رحِمَهُ اللّه رحمَةً واسعَةً وأمدَّنا بأمدادِهِ بقوله: أَخلِصُوا النّيةَ للّهِ، اللّهُ تعَالى لا يَقْبَلُ عَمَلًا إلَّا ما كانَ خَالصًا لهُ، أخلِصُوا النّيةَ للّهِ وتَواضَعُوا، كلٌّ منكُمْ فليتَواضَعْ وليُعامِلْ أخَاهُ بما يحبُّه لنَفسِه، ولا يَذهَبَنَّ أحدُكُم مَذهَبَ الاستِبْدادِ والتّرفّعِ على إخوتِه، بل التزموا التّواضُعَ والتّوافُقَ والتّحَاب، اسلكُوا هذا المسْلَكَ حتى تَنجَحُوا.
إخواني وأخواتي في اللّه، إنَّ الإنسانَ خُلِقَ ليَعْرِفَ رَبَّهُ ويَعْبُدَهُ، ومعرِفةُ اللّه تَعالَى تكونُ بمعرِفةِ صفاتِهِ والإيمانِ بهِ أنَّهُ واحِدٌ أَحَدٌ لا شَرِيكَ ولا مَثِيلَ ولَا شَبِيهَ لهُ، وأنَّهُ خَلَقَ العَالَمَ كلَّه بما فيهِ مِنَ السَّماواتِ والأَرْضِ وما فيهِما وما عليهِما واللهُ تعالى لا يَحتاجُ لشَىءٍ، بَلِ العبدُ هو الفقِيرُ المحتاجُ إلى اللّه، واللّه هُوَ الغنيُّ عنِ العَالم، والإنسانُ لم يُخلَقْ ليَعْمَلَ من عندِ نفسِهِ دِينًا لَهُ، وإنَّما خُلِق لعبادَةِ ربَّهِ علَى الدِّينِ الذِي رَضِيَهُ اللّهُ لنا والشَّرْعِ الذِي جاءَ بهِ نبيُّنَا صلى الله عليه وسلم، قالَ اللّه تعالَى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)﴾.
وأُذَكِّرُكُم إخواني بفريضَةٍ فرَضَها اللّهُ علينا وَهِيَ زكاةُ الفطرِ، وأُذَكِّرُكُم بسُنَّةِ صيامِ ستَّةِ أَيَّامٍ منْ شوَّالٍ، ففِي صحِيحِ مُسْلِمٍ عنِ النَّبِيّ صلى الله عليه وسلم قالَ: «مَنْ صَامَ رمضانَ ثمَّ أَتْبَعَهُ بسِتٍّ مِنْ شوَال كانَ كصيامِ الدّهْرِ» وتَحْصُلُ السُّنَّةُ بصيامِ الأيّامِ السِّتَّةِ مُتَوَالياتٍ أو متفرّقاتٍ.
وأخيرًا، نسأَلُ اللّه سبحانَهُ وتعالَى أنْ يُثَبِّتَ أَقْدامَنا عَلَى الحَقِّ، ويَرْزُقَنا شفاعَةَ الحبيبِ الـمُصطفى صلى الله عليه وسلم، ونسألُهُ أَنْ يُعيدَ شهرَ رمضانَ الـمُبارَكَ علَى لبنانَ وبلادِنا العربيَةِ والإسلاميَّةِ وأُمَّتِنا الإسلامِيَّةِ بالخيرِ والأمانِ والطُّمأنِينَةِ، ونسألُهُ أنْ يَنْصُرَ الحَقَّ وأهلَهُ.
تقبَّلَ اللهُ طاعاتِكم، وكلُّ عامٍ وأنتمْ بخير.