روى أبو داود وغيره عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن اللّهَ يبعثُ لهذه الأمّةِ على رأسِ كلّ مائةِ سنةٍ من يُجدّد لها دينها». وهذا الحديث فيه إشارة إلى ما منَّ اللّه تعالى به على أهل الإسلام من الأئمة الهداة ومن سائر العلماء الأعلام والصالحين الذين جعل اللّه فيهم من الأسرار وجدّد بهم الآثار وبيّن بهم طريق الحق وردع بهم أهل الزيغ والضلال. وقد ألّف السيوطي أرجوزة ذكر في أبياتها اللطيفة مجدّدي العصور، وفي باب «أعلام المسلمين» هذه السنة نتناول التعرّف على هؤلاء الذين قيل فيهم إنهم كانوا مُجدّدي قرونهم. 

اختلف العلماء في مجدد القرن الرابع الهجري فذكر بعضهم أن القاضي أبا بكر الباقلاني هو مجدد الدّين على رأس المائة الرابعة، رحمه اللّه تعالى ونفعنا به.

التعريف به

هو محمّد بن الطيب بن محمّد ابن جعفر بن القاسم أبو بكر الباقلاني، رأس المتكلمين على مذهب أبي الحسن الأشعري، وأوحد وقته في فنه وهو من أكثر الناس كلامًا وتصنيفًا في الكلام، أي علم التوحيد.

وكان حسن الفقه، عظيم الجدل، وكانت له بجامع المنصور ببغداد حلقة عظيمة.

مذهبه في الفروع

اختلفوا في مذهبه في الفروع: فقيل شافعي وقيل مالكي، حكى ذلك عنه أبو ذر الهروي.

وكان القاضي أبو بكر الباقلاني ثقة وكان أعرف الناس بعلم الكلام وأحــسنــهــم خــاطرًا وأجودهم لسانًا وأوضحهم بيانًا وأصحهم عبارة وله التصانيف الكثيرة المنتشرة في الرد على المخالفين.

حُسنُ خَاطره وسُرعة بديهته

تميّز القاضي أبو بكر الباقلاني بقوّة لسانه وحجّته، وسرعة بديهته، وإفحامه للخصوم…

ومما يدل على ذلك ما رُوي من أن شيخًا من مشايخ فرقة من الفرق المخالفة لأهل السنة ومتكلمها حضر بعض مجالس النظر مع أصحاب له فلما أقبل القاضي أبو بكر الباقلاني التفت ذاك الشيخ إلى أصحابه وقال لهم: قد جاءكم الشيطان، فسمع القاضي كلامه وكان بعيدًا من القوم فلما جلس أقبل على ذاك الشيخ وأصحابه وقال لهم: قال اللّه تعالى:

﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83)﴾ سورة مريم، أي إن كنتُ شيطانًا فأنتم كفار وقد أرسلت عليكم.

شيوخه

نهل القاضي أبو بكر الباقلاني من أنهارٍ من علوم شتّى من المنابع الصافية… فأخذ علم الأصول عن أبي بكر بن مجاهد الطائي والفقه عن أبي بكر الأبهري. وأخذ علم الأشعري ومذهبه في علم الكلام عن أبي الحسن الباهلي.

تلاميذه

أخذ عنه كثيرون، ودرسوا عليه أصول الفقه والدين. وخرج منهم من الأئمة أبو محمّد عبد الوهاب بن نصر المالكي، وعلي بن محمّد الحربي، وأبو جعفر السماني، رحمهم اللّه تعالى.

ثناء العلماء عليه

قال أبو الفرج: وسمعت أبا بكر الخوارزمي يقول: كل مصنّف ببغداد إنما ينقل من كتب الناس إلى تصانيفه سوى القاضي أبي بكر فإن صدره يحوي علمه وعلم الناس.

وقال علي بن محمّد بن الحسن الحربي المالكي: كان القاضي أبو بكر الأشعري يهم بأن يختصر ما يصنفه فلا يقدر على ذلك لسعة علمه وكثرة حفظه.

وكان أبو محمّد البافي يقول: لو أوصى رجل بثلث ماله أن يدفع إلى أفصح الناس لوجب أن يدفع إلى أبي بكر الأشعري، -يعني الباقلاني-.

من تصانيفه

قد انتشرت عنه تصانيف كثيرة، منها «التبصرة»، و«دقائق الحقائق»، و«التمهيد في أصول الفقه»، و«شرح الإبانة»، وغير ذلك من المجاميع الكبار والصغار، ومن أحسنها كتابه في الرد على الباطنية، الذي سمّاه «كشف الأسرار وهتك الأستار».

وفاته رضي اللّه عنه

توفي القاضي أبو بكر رحمه اللّه تعالى آخر يوم السبت، ودفن يوم الأحد لسبع بقين من ذي القعدة سنة ثلاث وأربعمائة ببغداد،  وصلّى عليه ابنه الحسن، ودفنه في داره بدرب المجوس، ثم نقل  بعد ذلك فدفن في مقبرة باب حرب.