الحمد للّه ربّ العالمين، أرسل رسوله بالهدى ودين الحقّ ليظهره على الدّين كلّه، وأشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمّدًا عبده ورسوله، صلّى اللّه عليه وعلى آله وصحبه، والذين اتّبعوهم بإحسانٍ، وسلّم تسليمًا.
أما بعد، فقد روى البخاري ومسلم عن أُبي بن كعب أنه سمع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول: «إن موسى قام خطيبًا في بني إسرائيل، فسُئل أيّ الناس أعلم؟ فقال: أنا، فعتب اللّهُ عليه إذ لم يَرُدّ العلم إليه، فأوحى اللّهُ إليه إنّ لي عبدًا بمجمَعِ البَحْرَين هو أعلمُ منك. قال موسى: يا ربّ فكيف لي به، قال: تأخذ معكَ حوتًا فتجعلُهُ في مِكْتَلٍ فحيثُما فقدت الحوت فهو ثمَّ».
قال ابن عباس: لما ظهر موسى وقومه على أرض مصر أنزل قومه «مصر»، فلما استقرّت بهم الدار أمره اللّه أنْ ذكّرْهُمْ بأيام اللّه، فخطب قومه فذكّرهم ما آتاهم اللّه من الخير والنعمة إذ نجّاهم من آل فرعون، وأهلك عدوهم، واستخلفهم في الأرض، ثم قال -أي سيّدنا موسى-: وكلّم اللّه نبيّكم تكليمًا، واصطفاه لنفسه، وألقى عليّ محبّة منه، وآتاكم من كل ما سألتموه، فجعلكم أفضل أهل الأرض، ورزقكم العزّ بعد الذل، والغنى بعد الفقر، والتوراة بعد أن كنتم جهالًا، فقال له رجل من بني إسرائيل: عرفنا الذي تقول، فهل على وجه الأرض أحد أعلم منك يا نبيّ اللّه؟ قال: لا، فعتب اللّه عليه حين لم يرُدّ العلم إليه، فبعث اللّه جبريل: أن يا موسى وما يدريك أين أضع علمي؟ بلى إن لي عبدًا بمجمع البحرين أعلم منك. فلما سمع موسى هذا تشوّقت نفسه الفاضلة، وهمّته العالية، لتحصيل علم ما لم يعلم، وللقاء من قيل فيه: إنّه أعلم منك، فانطلق مع فتاه -يوشع ابن نون- مجتهدًا طالبًا للازدياد من العلم.
فانطلق موسى ومعه فتاه يوشع عليهما السلام الذي كان يتعلّم منه ويرافقه ويخدمه، وتزودا حوتًا كانا يصيبان منه غداء وعشاء.
ثم وصلا إلى ملتقى البحرين وجلسا في ظل صخرة في مكان قرب ضفة البحر ووضعا رأسيهما فناما. وقيل إنه كان يوجد هناك ماء يسمى «ماء الحياة» وخاصيّة هذا الماء أن كلّ من يصيبه شىء منه يحيا، وقد أصاب السمكة شيئًا منه فأحياها اللّه تعالى فاضطربت وانزلقت وسلكت طريقًا في البحر، وأصبح هذا الطريق الذي سلكته سهلًا للسير فيه.
واستيقظ الفتى يوشع فرأى السمكة قد خرجت من الوعاء فقال: لن أوقظ رسول اللّه موسى الآن ولكن سأخبره عندما يستيقظ. وعندما استيقظ سيّدنا موسى نسي فتاه أن يخبره عن خروج السمكة ونسي موسى سؤال الفتى إن رأى شيئًا غريبًا، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما ولم يشعرا بجوع ولا تعب حتّى كان الغد وقد مشيا مسافة طويلة، فقال سيّدنا موسى لفتاه: آتنا غداءنا لقد لقينا من سفرنا هذا نصبًا. فتذكر يوشع السمكة، فقال لسيّدنا موسى عليه السلام: لما أوينا إلى الصخرة فإنّي نسيت الحوت -أي
السمكة-، فقال له سيّدنا موسى عليه السلام: هذه هي العلامة التي انتظرتها للالتقاء بالعبد الصالح. فرجعا إلى المكان الذي كانت فيه السمكة فوجدا عبدًا هو سيّدنا الخضر عليه السلام جالسًا على طنفسة خضراء مُسَجًّى بثوبه، قد جعل طرفه تحت رجليه، وطرفه فوق رأسه، فسلّم عليه موسى، فكشف عن وجهه وقال: هل بأرضك من سلام؟ من أنت؟ قال: أنا موسى. قال: موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. قال: فما شأنك؟ قال جئت لتعلّمني مما عُلّمت رشدًا، الحديث، والخضر نبيٌّ عند الجمهور. والآية في سورة الكهف/82 ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ تشهد بنبوّته لأن بواطن أفعاله لا تكون إلا بوحي. قال له سيّدنا موسى: أُريدُ أن أتبعك على أن تعلّمني مما علّمك اللّه، أي من أمور خاصة فإن موسى أفضل من الخضر فهو من أولي العزم من الرسل، فقال له الخضر: إنك لن تستطيع معي صبرًا. فقال له سيّدنا موسى: ستجدني إن شاء اللّه صابرًا. قال له سيّدنا الخضر: إن سرت معي فلا تسألني عن شىء حتى أخبرك عنه -أي حتى أفسره لك-.
فانطلقا يمشيان على ساحل البحر، فمرت سفينة فكلّما أهلها أن يحملوهما، فقبلوا من غير مقابل، فلما ركبا في السفينة تفاجأ موسى بالخضر وقد قلع منها لوحًا من ألواح السفينة بالقدوم، فقال له موسى: قوم حملونا بغير نول عمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها ﴿لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)﴾ وقال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: «فكانت الأولى من موسى نسيانًا» رواه البخاري.
وبينما هما على السفينة إذ جاء عصفور فوقع على حرفها فغمس منقاره في البحر، فقال الخضر لموسى: ما علمي وعلمك من علم اللّه إلّا مقدار ما نقر أو نقص هذا العصفور من البحر، أي لا نعلم من معلومات اللّه إلّا القدر القليل الذي أعطانا.
ولما غادرا السفينة تابعا المسير فوجدا غلمانًا يلعبون فأخذ الخضر واحدًا منهم فأمسك به وقتله فقال سيّدنا موسى عليه السلام: قتلت نفسًا زكيّة لقد أتيت أمرًا عظيمًا! فقال له سيّدنا الخضر: أما قلت لك إنّك لن تستطيع معي صبرًا. فقال له سيّدنا موسى عليه السلام: إن سألتك عن شىءٍ بعدها فلا تصاحبني.
وورد في الخبر أن هذ الغلام كان يفسد في الأرض ويقسم لأبويه أنه ما فعل فيقسمان على قسمه ويحميانه ممن يطلبه.
ثم سارا منطلقين في سبيلهما حتى أتيا قرية ولم يكن معهما زاد فسألا أهلها الطعام فلم يقبل أحد منهم أن يطعمهما، وبينما كانا يسيران في القرية وجدا جدارًا متداعيًا للسقوط فقام سيّدنا الخضر بإقامته وتدعيمه فقال له سيّدنا موسى عليه الصلاة والسلام: لو شئتَ لاتخذت عليه أجرًا.
فقال له سيّدنا الخضر :هذا فراق بيني وبينك سأخبرك بما لم تستطع عليه صبرًا.
أما السفينة فكانت لمساكين يعملون عليها وكان في البحر ملكٌ ظالمٌ يأخذ كل سفينة غصبًا فأردت أن أعيبها، فنزعتُ لوحًا من ألواح السفينة لتبدو أنها غير صالحة فلا يأخذها الملك الكافر.
وأما الغلام فكان أبواه صالحين، واللّه سبحانه وتعالى أعلم الخضر أن الغلام إذا كبر كان وبالًا على والديه طغيانًا وكفرًا، وأن اللّه سيبدّلهما بغلام صالح خير منه.
وأما الجدار فكان تحته كنزٌ لولدين يتيمين وقد مات أبوهما وكان رجلًا صالحًا ،فأراد اللّه أن يستخرجا الكنز عندما يكبران. وهذا ما لم تستطع عليه صبرًا.