عزيزتي يومياتي… 

لربما ليلة أمس، هي الليلة الأولى منذ أكثر من ستة أشهر التي أنام فيها نومًا متواصلًا من غير تقطع، والسبب في ذلك يعود إلى أنني لم أنم في منزلي الليلة الماضية إنما في غرفة الفندق المطلة على شاطئ البحر الأحمر في مصر. فابنتي، حفظها اللّه وجعلها من الصالحات، أنستني طعم النوم منذ اليوم الأول الذي ولدت فيه، لكن لا بأس في ذلك ولست متضايقًا ألبتة بل على العكس، طعم السهر على رعايتها ألذ على قلبي من شهد العسل. 

جميلة هي مصر، تلمس البساطة في وجوه الناس وفي الطرقات، تجد البراءة جلية على وجوه الأطفال، على الرغم من الفقر الشديد الذي تعانيه الكثير من النواحي إلا أنك نادرًا ما تجد وجهًا متجهمًا بين الناس. صحيح أنني لن أغيب عن أسرتي كثيرًا إلا أنني في أعلى درجات اشتياقي لابنتي وزوجتي، مع أنني لم أغب إلا ليوم واحد وسأعود اليوم لكنني اشتقت لهما كثيرًا. لكن يا يومياتي ليس حديثي اليوم عن أسرتي العزيزة ولا عن مصر الحبيبة إنما حديثي عن نصف الساعة التي أمضيتها مع رجل غريب تعرفت عليه أثناء انتظاري موعد الطائرة في المطار.

تربيت وكبرت على مقولة أن المال والأولاد هم زينة الحياة الدنيا، وترعرعت في مجتمع يشجع على فكرة الأسرة وبناء بيت كما نقول في مجتمعنا. وللّه الحمد أنني تربّيت في منزل متواضع بين أب وأم يعرفان قيمة الأسرة وكيفية الحفاظ عليها. لكن هذا الرجل الغريب أكّد لي هذه الفكرة وذكرني بأهمية الأسرة. باختصار فإن هذا الرجل يعمل وكيلًا لإحدى الشركات العالمية المعروفة في الشرق الأوسط وهو الرجل الأول في كل فروع الشركة في أكثر من عشرين دولة. كل شهر يمضي حوالي عشرة أيام في إحدى الدول وفي الشهرين الأخيرين من كل سنة لا يعود إلى موطنه الأم أبدًا بل يتنقل في جولات تفقدية على كل الفروع في هذه الدول. إذًا فحياة هذا الرجل في الطائرة يرى المضيفات والمضيفين أكثر مما يرى أسرته وأولاده. عندما سألته عن حياته وأسرته أخبرني أن عنده بنتًا وصبيًّا، البنت في الصف الثامن والصبي في الصف السادس. ومن باب الحشرية سألته ألا تشتاق لهم في كل سفرك خاصة أنك لا تراهم إلا أيامًا قليلة في السنة نظر إليّ نظرة صفراء بطرف عينه وأجابني جوابًا لا يمت لسؤالي بصلة، وقال: «لست مقصرًا معهم ألبتة، كلاهما في أحسن مدارس لبنان، وكلاهما لديه اشتراك سنوي في أحسن نوادي لبنان، كلاهما لديه أحدث هاتف، وجهاز لابتوب، وسائقان وخادمتان في المنزل تحت إمرتهما لذا لا أعتبر نفسي مقصرًا معهما ألبتة» ثم أكمل عمله على جهاز الكمبيوتر المحمول خاصته.

لوهلة ظننت أنه لم يفهم السؤال وقبل إعادة طرح السؤال عليه استطرد قائلًا: «عندما أكون في لبنان أوصلهما إلى المدرسة بنفسي أظن أن هذا كافٍ لأشعرهما بالحنان، أليس كذلك»؟ وابتسم ابتسامة أشعرتني بالاشمئزاز. لا أدري أحقًّا هو يصدق ما يقول أم قال ما قال ليهرب من جوابه الحقيقي لكنه بدا واثقًا من كلامه وكأنه يقوله عن سبق إصرار وتصميم وهو مقتنع تمامًا أن ما يفعله كافٍ ليشعر أولاده بالحنان. في هذه اللحظة سمعت عاملة المطار تنادي عبر المذياع عن فتح بوابة الطائرة ويمكن للمسافرين الصعود إلى متن الطائرة. لا أذكر أنني أسرعت في حياتي كما أسرعت حينها للصعود إلى متن الطائرة والهروب من جلسة ذلك الرجل غريب الأطوار.

صحيح يا يومياتي أننا نتعب ونكد ونبذل قصارى جهدنا لتأمين حياة مريحة لأولادنا ونعمل جهدنا حتى لا نقصر على أولادنا ولا نحرمهم مما يحتاجون، لكن ليس بهذا الشكل. الأسرة ليست مجرد زواج وأولاد، الأسرة ليست مجرد إنفاق أموال على أشخاص نعيش معهم، الأسرة ليست مجرد أحلى ثياب نلبسها أولادنا أو أحسن مدارس ندخلهم إليها، الأسرة ليست «أنا عندي خادمة أو خادمتان، أو كل ولد لديه شخص يخدمه في المنزل». ما الفائدة إن كان كل ذلك مؤمّنًا لأولادنا لكننا لا نراهم، ما الفائدة إذا تخرّجوا من أحسن المدارس والجامعات لكننا لم نجد الوقت لتأديبهم وإرشادهم وتعليمهم ما لا يتعلّمون في مدارسهم لأننا في رحلة عمل أو اجتماع؟

بحكم عملي كمستشار اجتماعي في بعض مدارس بيروت، تعرفت إلى كثير من الأهالي والحالات الاجتماعية، لكن أكثر ما كان يزعجني عندما كنت أجتمع مع «الدادا» أو مدبرة المنزل بدل أن أجتمع مع الأم والسبب «لديها صبحية في أحد المقاهي لا تستطيع الاعتذار» حسنًا أين الأب؟ «الأب مسافر لا يأتي كثيرًا إلى المنزل». أيّ صبحية وأيّ عمل ذلك الذي يمنع الأم أو الأب من السؤال عن حال أطفالهم؟ أي مالٍ وأي جاهٍ سيعوض هؤلاء الأولاد عن آبائهم وأمهاتهم. انقلبت المقاييس ولم يعد الأولاد هم الهمّ الأول للأهل، أصبح الهمّ الأول في الغالب، «مدرسة أولادي أحسن من مدرسة أولادك، وهاتف ابني جلبته له من البلد الفلاني لأنه لم ينزل بعد في أسواق بلدنا».

بعد البحث والتدقيق في هذا الموضوع، ومن وجهة نظري يا يومياتي فإنني لا أتمنى أن أصبح من أصحاب الأموال الطائلة، حتى لا يصبح همي المحافظة على هذه الأموال فقط، ولن أعير اهتمامًا في الغالب لأسرتي فالبيوت الفاخرة في الغالب لا تحوي أسرًا إنما مجرد أناس من فئات عمرية مختلفة يعيشون معًا فقط لأنهم أقرباء على الهوية وفي دوائر النفوس. وأنا أفضّل العيش في بيت متواضع مع أسرة مترابطة قائمًا على تربية أولادي التربية الصالحة على أن أكون من الأهل الذين يجمعون الأموال الطائلة ولكن لا يهتمون بتربية أولادهم التربية  السليمة، والسلام.

إعداد محمد حلاوي