أبو خالد في الثمانين من عمره… فقد زوجته قبل سنين… أصيب بمرض النسيان منذ عدة سنوات… حتى إنه أحيانًا لا يذكر أولاده… يراهم أمامه وجوهًا مجهولة… لا يذكرها.. لكنه يشكر اللّه أنه يجد من يُحسن إليه ويأتيه بطعامه وشرابه…
كان أولاده يتناوبون على استضافته… كان يقضي أسبوعًا عند خالد وهو أكبر أبنائه… ثم يأخذه وليد أسبوعًا آخر… وفي الأسبوع التالي تأخذه ابنته سحر إلى منزلها… وهكذا تمضي الأيام والأسابيع… أبو خالد يجلس مع الصغار حين عودتهم من المدرسة… يمرح معهم… يتناول طعامه معهم… ثم يعود لوحدته وآلامه… عندما تعود ذاكرته له… يذكر زوجته وصغاره… بذل لأجلهم الكثير… يذكر نور… أصغر بناته التي سافرت منذ سنين مع زوجها… ولا يكاد يسمع أخبارها… مذ سافرت زارته مرة واحدة ولم تعد… كان يبكي شوقًا إليها فقد كانت المدللة عنده… لكنها تزوجت وابتعدت وشغلتها الدنيا عن أبيها وإخوتها…
زوجة خالد انزعجت من استضافة الوالد تلك المدة الطويلة… قالت لزوجها: أرسله إلى منزل وليد… هو أحسن حالًا منا… ويستطيع الاعتناء بوالدك أكثر منا.
بعض النفوس تنكر فضل من أحسن إليها… ينسون من أعانهم وقت حاجتهم وضعفهم… يرمون وراء ظهرهم كل ذكريات الأيام الصعبة التي عاشوها… تناسوا من مدّ لهم اليد لإنقاذهم من مشاكلهم… يقابلون الإحسان بالإساءة.. ولا يهتمون… فكيف بمن يقابل إحسان أبيه له بإهماله ومحاولة التخلص منه…
وليد رفض استضافة والده… وهكذا أجابت سحر… زوجي لا يقبل به…
واتفقوا أن يذهبوا به إلى إحدى دور العجزة ليُسكنوه هناك… أقنعوا والدهم أن يذهب معهم في نزهة…
ولما وصلوا لدار العجزة… أدخلوه.. وقابلوا إدارة المستشفى… قالوا للمدير: وجدنا الرجل تائهًا في الشارع فأحضرناه لكم… وقالوا لوالدهم امكث هنا قليلًا وسنعود إليك… ثم رحلوا…
أدخلوا الوالد إلى غرفة فيها بعض من هم في مثل حالته… أبو خالد كان في حالة ذهول… لا يعرف أين هو… ومن هؤلاء الرفاق في الغرفة… أين ذهب الذين أحضروه إلى هنا… بكى بحرقة من الغربة التي يعيشها… وأخيرًا علم أنه في دار العجزة… وأن أبناءه رموه هنا… ازداد حزنه وألمه… تذكر كيف كان يعامل أبناءه وكيف هم تصرفوا معه… لم يشكُهم لأحد… قال في نفسه لعلهم يأتون يومًا فأراهم قبل أن أموت… لكن أمنيته لم تتحقق… ومات أبو خالد… ودفنه أهل الدار… ولم يعرفوا أهله ليخبروهم بوفاته…
الصور التي نراها في هذه الدنيا كثيرة… منها صور جميلة… يفرح القلب لذكرها ورؤيتها… تقول عند حصولها… الحمد للّه… لا يزال في هذه الدنيا خير… وهذا لا شك فيه… مهما كثر أهل الظلم… يبقى هناك الكثير من أهل الخير… يحبون مساعدة الناس لوجه اللّه… لا يبغون من وراء ذلك إلا رضى اللّه عزّ وجلّ…
نحن نعرف الحديث الذي ذكر فيه رسول اللّه صلى الله عليه وسلم… الثلاثة الذين علقوا في الغار وانسد بابه عليهم… قالوا: لندع بصالح أعمالنا… ومنهم واحد أخذ الغبوق وهو اللبن لوالديه قبل أن يسقي أولاده.. فوجد أبويه نائمين… فمكث بقربهما ولم يوقظهما، انتظر حتى أفاقا من نومهما وسقاهما… وبسبب إحسان هذا الرجل لوالديه وبرّه لهما… وبسبب أعمال طيبة قام بها رفاقه.. أذهب اللّه عنهم كدرهم وانزاحت الصخرة عن باب الغار وخرجوا فرحين بفضل اللّه وكرمه…
غريب هذا المجتمع الذي نعيش وسطه هذه الأيام… كثر اهتمام البعض بأشياء ليست من الأولويات… وتركوا الاهتمام بما هو فرض عليهم… يضيّع البعض وقته بما لا ينفعه لا في الدنيا ولا في الآخرة… ويترك بعض الواجبات مثل برّ الوالدين… أو الإنفاق في
سبيل اللّه مما هو واجب كالزكاة… أو تعلّم ما يجب تعلّمه من أمور الدين… لكن تبقى هناك فئة تعمل لآخرتها… يعملون للفوز برضى اللّه والجنة… وذلك لأنهم عرفوا أن بلوغ رضى اللّه هو أعظم غاية وأن النعيم في الجنة لا يوازيه نعيم في هذه الدنيا. وفقنا اللّه وإياكم لرضاه.