الحَمْدُ للهِ الذِي أنزَلَ عَلَى عبدِهِ الكتابَ ولم يجعَلْ لَهُ عِوَجًا قيمًا ليُنْذِرَ بأسًا شديدًا من لَّدُنْهُ ويُبَشِّرَ المؤمنينَ الذينَ يعملُونَ الصَّالحاتِ أنَّ لهم أجرًا حسنًا. والصلاةُ والسلامُ على سيدِنا محمّدٍ خيرِ الأنامِ وبدرِ التَّمامِ وإمامِ كُلِّ إمامٍ وعلى آلهِ وصحبِهِ الأعلامِ ومَنْ تَبِعَهُم مِنَ الكِرَامِ ونَسْأَلُهُ تعالى أنْ يُتِمَّ علينا نِعْمَتَهُ بالوفاةِ عَلَى كامِلِ الإيمان. 

أمَّا بعدُ فيقولُ اللهُ تعالى في القُرءان الكريم: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (27) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) سورة الحج.

ما إِنْ وَدّعْنا شهرَ رمضانَ المبارَكَ شهرَ الخيرِ والجُودِ والرحمةِ والسَّلامِ حتى أقبلَتْ أيّامُ الحَجِّ العظيمِ فتَشَوَّفتْ نفوسُ المؤمنينَ وتشَوَّقَتْ أفئدةُ الـمُتَّقينَ لأداءِ هذه الفريضَةِ العظيمَةِ ومعَ إطلالَةِ الأشهُرِ المعلوماتِ التي قَالَ ربُنا عزَّ وجلَّ فيها: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الْحَجِّ﴾ سورة البقرة/197. نُودِّعُ كثيرًا من الأهلِ والأصحابِ والأحبابِ ممن كُتِبَ لهم زيارةُ الحرمِ وقَصْدُ الكعبَةِ المشرَّفةِ والبقاعِ الطّاهرَةِ وزيارةُ خيرِ الأنامِ سيدِنا محمّدٍ صلى الله عليه وسلم وتبقَى في البالِ ذِكرَياتٌ تُلهِبُ الفؤادَ شوقًا وتَسِيلُ لها الأحداقُ رغبَةً في شُهودِ تلكَ المقاماتِ ورُؤيَةِ تلكَ الرِّحابِ الـمُقدَّسةِ.

لقدْ فَرَضَ اللّهُ تبارَكَ وتعالَى الحَجَّ على الـمُستطيعِ مَرَّةً واحِدَةً في العُمُرِ ولكِنَّ الحنينَ يَحْمِلُ عُشَّاقَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعُشَّاقَ هَدْيِهِ الشريفِ الذِي أخرَجَنا اللهُ بهِ مِنَ الظُّلماتِ إلى النُّورِ إلى السَّفرِ لأدائِهِ أكثرَ مِنْ مرَّةٍ ومَنْ ذاقَ حَلَاوَةَ الإخلاصِ في المناسِكِ وتشرَّفَ بزيارَةِ مَقَامِ رسولِ الله صلى الله عليه وسلم عرَفَ معنى الشَّوْقِ والحنينِ والحُبِّ الذي يَثُورُ في النفسِ إذا انطلقَتْ أفواجُ الحَجِيجِ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ وصَوْبٍ إِلَى حَيْثُ تعلَّقَ قلبُهُ وبقِيَ بعدَهُم حزينًا لا يَدْرِي أَيَكُونُ وسْطَ جموعِ المحرمِينَ لرَبِّ العالمينَ بالحَجِّ في عامِ قابِلٍ أم يكونُ بينَ أطباقِ الثَّرَى.

سبحانَكَ اللَّهُمَّ ما أكرَمَكَ لقَدْ فرضْتَ الحجَّ على مَنِ استطاعَ إليهِ سبيلًا وأثبْتَ عليهِ ثوابًا جزيلًا ووفَّقْتَ إليهِ من شِئْتَ من عبادِكَ المؤمنينَ فتوفيقُكَ يا ربُّ للحَجِّ نعمةٌ وثوابُكَ عليه نعمةٌ وحمدُنا لك نعمَةٌ فتباركْتَ وتعاليتَ لا نُحصِي ثناءً عليكَ أنتَ كما أثنيْتَ على نفسِكَ لبيكَ اللَّهُمَّ لبيكَ لبيكَ لا شريكَ لكَ لبيكَ إنَّ الحمدَ والنعمَةَ لك والملكَ لا شريكَ لك.

وفي هذا المقامِ نقولُ: إِنَّ ممَّا لا جِدالَ فيه أنَّ أعمالَ الحَجِّ لا تخلُو مِنَ المشقَّاتِ والمتاعِبِ إلَّا أنَّ الأمرَ يكونُ مُستلَذًّا طَيِّبًا حينَ يذكُرُ المتعَبِّدُ ما للحَجِّ مِنَ المزايا ويَسْتَحْضِرُ في نفسِهِ الإخلاصَ بهذا العَمَلِ الـمُعظَّمِ للمَلِكِ الجبَّارِ الذي له مُلْكُ السَّمواتِ والأرضِ ويَفهَمُ مَا للمَناسِكِ مِنَ الحِكَمِ والمعاني فقدْ قالَ رسولُ اللّهِ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ حَجَّ فَلَمْ يَرْفُثْ ولم يَفْسُقْ خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كيومَ ولدَتْهُ أمُّهُ» رواهُ البُخاري. ومَنْ مِنَّا لا يَطمَعُ أنْ يَخرُجَ منْ ذُنُوبِهِ وأوزارِهِ وآثامِهِ وأنْ يعودَ كيومَ ولدَتْهُ أمُّهُ بل هُوَ القَصْدُ والـمُرتجى ونحنُ نسأَلُ اللّهَ تعالَى ليلَ نهارَ العَفْوَ والمغفِرَةَ وتمامَ الـمِنَّةِ بالوَفاةِ علَى ذلك. ومِنْ هُنا كانَ جديرًا بمريدِ الحَجِّ أن يتفَكَّرَ أَوَّلَ ما يتفَكَّرُ إذا هَمَّ بقَصْدِ البيتِ الحرامِ برَدِّ الحُقُوقِ إلى أَصحابِها والخُرُوجِ مِنَ المظالمِ وإنْ كانَ هذا ليسَ مقصُورًا عَلَى الحَاجِّ فحَسَب بل هُوَ وَاجِبٌ عَلَى كُلِّ مُكَلَّفٍ كما قَالَ رَبُنا تَعالى:

﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا عَسَى رَبّ‍ُكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ﴾ سورةُ التحريم/8. وقالَ رسولُ اللّه صلى الله عليه وسلم: «مَنْ كانَتْ عندَهُ مَظلمَةٌ لأخِيهِ فليتَحَلَّلْهُ منهَا فإنَّهُ ليسَ ثَمَّ دِينارٌ ولا درهَمٌ» رواهُ البخاريُّ. فإنْ أبرَأَ قاصِدُ الحَجِّ ذمتَهُ مِنْ تبعاتِ النَّاسِ فقَضَى ما تعلَّقَ برقبَتِهِ من حُقُوقِ اللّه وحُقُوقِ عبادِ اللّه ثُمَّ حَجَّ حجًّا مبرورًا حَازَ هذه الـمَزِيَّةَ بنيلِ مَغْفرَةِ اللّهِ تعالَى لهُ الكبائِرَ والصَّغائِرَ.

وبمَا أنَّ الحَجَّ رحلَةُ العُمُرِ كما يُعبِّرُ عنه الكثيرُونَ فليَحْرِصِ الحَاجُّ عَلَى مَا لا بُدَّ منهُ ليَحُجَّ حَجًّا صَحِيحًا فلَقَدْ قيلَ: مَا أكثرَ الضَجِيجَ ومَا أقلَّ الحجِيجَ فإنَّ معرِفةَ المناسِكِ والقيامَ بها عَلَى وجْهِها مَعَ مُراعاةِ الشُّروطِ والأركانِ والواجباتِ والـمُستحباتِ لا يتَأَتَّى إلا بالعِلْمِ ولذَلِكَ وَجَبَ عَلَى مَنْ أَرَادَ الحَجَّ أَنْ يَتَعَلَّمَ ما يَحتاجُهُ مِنْ أحكامِ الحَجِّ قبلَ الدُّخُولِ فيه فقَدْ قَالَ العُلماءُ: يَجِبُ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ أَنْ لَا يَدْخُلَ في شَىءٍ حتَّى يَتَعَلَّمَ مَا أَحَلَّ اللّهُ منهُ ومَا حرَّم. فمَنْ أَهْمَلَ التَّعَلُّمَ لا يَضْمَنُ صِحَّةَ حَجِّهِ وَلَا يَضْمَنُ صِحَّةَ أَعْمَالِهِ التَّعبديةِ وَيَكُونُ حَالُهُ كَحَالِ تَائِهٍ في الصَّحْرَاءِ بلا دليلٍ يُريدُ أنْ يذهَبَ شَرْقًا فيَسيرُ غربًا وهُوَ لا يَدْري.

فاتَّقِ اللّهَ أخي الـمُسلِمَ وأتِمَّ الحَجَّ والعُمرَةَ للّهِ كمَا أمرَ اللّهُ لا كمَا تهوَى النَّفْسُ الأمارَةُ بالسُّوءِ واخرُجْ مِنْ كُلِّ مَا يُخالِفُ الشَّرْعَ وأَخْلِصِ النِّيَّةَ وَصَحِّحِ عَمَلَ الطاعةِ لرَبِّكَ واسْلُكْ سُبُلَ الطَّاعاتِ الوَاضِحَةَ بنُورِ العِلْمِ واثبُتْ عَلَى تَقَوَى الرَحْمنِ الرَّحيمِ تظفَرْ بالمطلوبِ وتنجُ ممَّا تخافُ، واعلَمْ أنَّ في رحلَةِ الحَجِّ تربيَةً للنَّفْسِ علَى مَكَارِمِ الأخلاقِ ومعاني الخيرِ وتَرْوِيضًا لها عَلَى الفضائِلِ مَعَ تحريرِها مِنْ ذُلِّ الشَّهَوَاتِ والرُقِيِّ بها إلى المقاماتِ العاليَةِ فإنَّكَ ترَى في الحَجِّ اجتماعَ النَّاسِ من بلادٍ شتَّى عَلَى اختلافِ أجناسِهِم وأحوالِهِم وألوانِهِم وألسِنَتِهِم جَاؤُوا راجِينَ عَفْوَ اللّهِ سَاعِينَ في طاعتِهِ في مَشْهَدٍ مَهِيبٍ فَتَذَكَّرْ بذَلِكَ يومَ القيامَةِ حينَ يَقُومُ النَّاسُ من قبورِهِم لا زَادَ يَومَئِذٍ إلَّا التَّقْوَى والعَمَلُ الصالحُ وحَرِيٌّ عندَئِذٍ بمَنْ كانَ أسرَفَ عَلَى نفسِهِ في أيّامٍ خاليَةٍ أن يُسيلَ دَمعتَهُ وأنْ تَفيضَ عينُهُ وأن يبكِيَ علَى ما فرَّطَ ويعقِدَ العَزْمَ عَلَى الجِدِّ والتَزَوُّدِ مِنَ الخيرِ. وإذَا مَا أتَمَّ المناسِكَ فليَقْصِدْ رسولَ اللّهِ صلى الله عليه وسلم في مدينتِهِ المنورةِ التي نوَّرَها اللّه بنورِ نبيِّه الـمُصطفَى صلى الله عليه وسلم وليَسأَلِ اللّهَ مُتَوسِّلًا بجاهِ خيرِ الـمُرسَلينَ صلى الله عليه وسلم فهناك تُغتفَرُ الذُّنوبُ وتُقالُ العَثرَاتُ فكَمْ مِنْ محزُونٍ هناكَ سَعِدَ وكَمْ مِنْ خائِفٍ هُناكَ أَمِنَ وكَمْ مِنْ سَقيمٍ هُناكَ بَرِئَ، فعَنْ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللّهُ عنهُما أنَّ رسولَ اللّهَ صلى الله عليه وسلم قالَ: «مَنْ حَجَّ فزَارَ قَبْرِي بعدَ وَفاتي فَكَأَنَّما زَارَني في حَياتي» رواهُ الدَّارَقُطْنِيُّ. ومَنْ يَسَّرَ اللّهُ لَهُ هَذَا ورَزَقَهُ هَذَا الفضلَ فليَتَذَكَّرْ مَنْ حمَّلَهُ السَّلامَ مِنْ إِخوانِهِ المؤمنينَ إلى

رَسُولِ اللّهِ صلى الله عليه وسلم فليُبلِّغْهُ السَّلامَ وليَدْعُ لَهُ بخيرٍ وليَحْمَدِ اللّهَ كَثِيرًا عَلَى مَا أَولاهُ ثُمَّ ليَحْفَظْ نفسَهُ فيما بقِيَ مِنْ عُمُرِهِ ليَرْحَلَ يومَ رحيلِهِ مَصْحُوبًا بالسَّلامَةِ في القَبرِ وفي الآخِرَةِ والحَمْدُ للّهِ أولًا وآخِرًا.