روى أبو داود وغيره عن أبي هريرة عن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إنّ اللّهَ يبعثُ لهذه الأمّةِ على رأسِ كلّ مائةِ سنةٍ من يُجدّد لها دينها». وهذا الحديث فيه إشارة إلى ما منَّ اللّه تعالى به على أهل الإسلام من الأئمة الهداة وسائر العلماء الأعلام والصالحين الذين جعل اللّه فيهم من الأسرار وجدّد بهم الآثار وبيّن بهم طريق الحق وردع بهم أهل الزيغ والضلال. وقد ألّف السيوطي أرجوزة ذكر في أبياتها اللطيفة «مجدّدي العصور»، وفي باب «أعلام المسلمين» هذه السنة نتناول التعرّف على هؤلاء الذين قيل فيهم إنهم كانوا مُجدّدي قرونهم. 

كنا قد بدأنا بمقالنا السابق بالكلام عمّن قيل إنه مجدد القرن الرابع فتكلمنا عن أبي بكر الباقلاني رضي اللّه عنه وفي مقالنا هذا سنتكلم عن اثنين من الأكابر قيل إنهما كانا مجددي عصورهم وهما أبو سهل الصعلوكي والإمام أبو حامد الإسفراييني…

أبو سهل الصعلوكي

التعريف به

هو محمّد بن سليمان بن محمّد ابن سليمان بن هارون بن عيسى ابن إبراهيم بن بشر الحنفي نسبًا من بني حنيفة العجلي الإمام الأستاذ الكبير أبو سهل الصعلوكي شيخ عصره وقدوة أهل زمانه وإمام وقته في الفقه والنحو والتفسير واللغة والشعر والعروض والكلام والتصوّف وغير ذلك من أصناف العلوم، أجمع أهل عصره على أنه بحر العلم الذي لا ينزف وجبل المعارف التي لا تمرّ بها الخصوم إلا كما يمرّ الهواء.

مولده ومبدأ سماعه للعلوم

ولد سنة ست وتسعين ومائتين، وأول سماعه سنة خمس وثلاثمائة. سمع ابن خزيمة وعنه حمل الحديث وأبا العباس السراج وأبا العباس أحمد بن محمّد الماسَرْجِسي وأبا قريش محمّد بن جمعة وأحمد بن عمر المحمّداباذي وأبا محمّد بن أبي حاتم وإبراهيم بن عبد الصمد وابن الأنباري والمحاملي وغيرهم.

فضله

كان رضي اللّه عنه حبر زمانه، وفقيه أصحابه وأقرانه، صحب أبا إسحاق المروزي وتفقّه عليه وتبحّر في العلوم، ثم خرج إلى العراق ودخل البصرة ودرس بها سنين، إلى أن استدعي إلى أصبهان فأقام بها سنين، فلما نعي إليه عمه أبو الطيّب خرج مستخفيًا فورد نيسابور سنة سبع وثلاثين وثلاثمائة، وجلس لمأتم عمّه ثلاثة أيام، وكان الشيخ أبو بكر بن إسحاق يحضر كل يوم فيقعد معه، فلما فرغ من العزاء عقدوا له مجلس النظر، ولم يبق موافق ولا مخالف إلا أقرّ بفضله وتقدّمه! وحضره المشايخ مرة بعد أخرى يسألونه أن ينقل من خلفهم وراءه بأصبهان، فأجاب إلى ذلك، ودرس وأفتى، وعنه أخذ فقهاء نيسابور.

ثناء أهل العلم عليه

سُئل أبو الوليد الفقيه عن أبي بكر القفّال وأبي سهل أيّهما أرجح فقال: ومن يقدر أن يكون مثل أبي سهل.

وقال الفقيه أبو بكر الصيرفي: لم ير أهل خراسان مثل أبي سهل.

وقال أبو عبد اللّه الحاكم: أبو سهل مفتي البلدة وفقيهها، وأجدل من رأينا من الشافعية بخراسان، وهو مع ذلك أديب، شاعر، نحوي، كاتب، عروضي، صحب الفقراء.

وقال الأستاذ أبو القاسم: سمعت أبا بكر بن إشكاب يقول: رأيت الأستاذ أبا سهل في المنام على هيئة حسنة لا توصف فقلت يا أستاذ بمَ نلت هذا؟ فقال بحُسن ظني بربي.

إن اللّه لا يضيّع عصابة رسول اللّه سيّدها

وحكي أن أبا نصر الواعظ وكان حنفيًّا في زمان الأستاذ أبي سهل انتقل إلى مذهب الشافعي فسئل عن ذلك فقال: رأيت النبيّ صلى الله عليه وسلم في المنام مع أصحابه قاصدًا لعيادة الأستاذ أبي سهل وكان مريضًا، قال: فتبعته ودخلت عليه معه وقعدت بين يدي النبيّ صلى الله عليه وسلم متفكّرًا فقلت: إن هذا إمام أصحاب الحديث وإن مات أخشى أن يقع الخلل فيهم فقال
رسول اللّه صلى الله عليه وسلم لي: لا تفكر في ذلك إن اللّه لا يضيّع عصابة -أي جماعة- أنا سيّدها.

وفاته رضي اللّه عنه

توفي الأستاذ أبو سهل رحمه اللّه تعالى يوم الثلاثاء في الخامس عشر من ذي القعدة سنة تسع وستين وثلاثمائة وصلّى عليه ابنه أبو الطيّب، ودفن في المجلس الذي كان يدرّس فيه. وقد قيل فيه إنه مجدد القرن الرابع الهجري

الأستاذ أبو حامد الإسفراييني

التعريف به

هو أبو حامد الإسفراييني، الأستاذ العلامة، شيخ الإسلام،  أحمد بن أبي طاهر محمّد ابن أحمد الإسفراييني، شيخ الشافعية ببغداد، انتهت إليه رئاسة الدنيا والدين ببغداد وكان يحضر مجلسه أكثر من ثلاثمائة.

ولـد الأسـتــــاذ أبــو حـــــامد الإسفراييني رحمه اللّه سنة أربع وأربعين وثلاثمائة.

وقد أفتى وهو ابن سبع عشرة سنة، وقدم بغداد وله عشرون سنة، فتفقّه على أبي الحسن بن المرزبان، وأبي القاسم الداركي.

وروى الحديث عن الدارقطني وأبي بكر الإسماعيلي وأبي أحمد بن عدي وجماعة وأخذ عنه الفقهاء والأئمة ببغداد وشرح المختصر في تعليقته التي هي في خمسين مجلدًا ذكر فيها خلاف العلماء وأقوالهم ومآخذهم ومناظراتهم حتى كان يقال له الشافعي الثاني وله كتاب في أصول الفقه.

وبرع في المذهب، وأربى على المتقدّمين، وعظم جاهه عند الملوك.

حدّث عن عبد اللّه بن عدي، وأبي بكر الإسماعيلي، وسمع «السنن» من الدارقطني.

حدّث عنه تلامذته أقضى القضاة أبو الحسن الماوردي، والفقيه سليم الرازي، وأبو علي السنجي، وأبو الحسن المحاملي، وآخرون.

ثناء العلماء عليه

وروى الخطيب عن أبي الحسين ابن القدوري قال: ما رأينا في الشافعيين أفقه من أبي حامد.  وعن القاضي أبي عبد اللّه الصيمري قال: أنظر من رأيتُ من الفقهاء أبو حامد الإسفراييني.

قال الخطيب: وكان ثقة وقد رأيته غير مرة، وحضرت تدريسه في مسجد عبد اللّه بن المبارك، وسمعت من يذكر أنه كان يحضر درسه سبعمائة فقيه، وكان الناس يقولون: لو رآه الشافعي، لفرح به.

قال ابن الصلاح: وعلى الشيخ أبي حامد تأوّل بعض العلماء حديث أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إن اللّه يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدّد لها دينها» رواه أبو داود، فكان الشافعي على رأس المائتين، وابن سريج على رأس الثلاثمائة، وأبو حامد على رأس الأربعمائة.

وفاته رحمه اللّه

توفي أبو حامد في شوال، سنة ست وأربعمائة، وكان يومًا مشهودًا بكثرة الناس وعظم الحزن وشدة البكاء، ودفن في داره، رحمه اللّه تعالى.