الحمدُ للّه المنزّهِ عن صفات المخلوقين والصلاةُ والسّلامُ على سيّدنا محمّد الصّادق الوعد الأمين وعلى آله وصحابته الغرّ الميامين.
قال اللّه تعالى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ﴾ سورة الحج.
لقد استجابَ اللّهُ دعوةَ سيّدنا إبراهيمَ عليهِ السّلامُ وجعلَ الكعبةَ مقصِدَ الملايين منَ المسلمين، يقصدونها من مشارقِ الأرضِ ومغاربها، لا فرقَ بينَ فقيرٍ وغنيّ، وكبير وصغير، وعربي وعَجَمِي إلّا بالتقوى.
يقولُ اللّهُ تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)﴾ سورة الحجرات.
إنّ للحجِّ فوائدَ وحكمًا عظيمةً، وهو لقاء سَنويٌّ يجتمعُ فيه المسلمون على كلمةِ لا إلهَ إلا اللّه محمّدٌ
رسولُ اللّه، ويدعونَ ربَّهم وخالقَهم الذي ليسَ كمثله شىء، يلبَسون لباسَ الإحرام قائلين: «لبّيك اللّهمَّ لبّيك، لبّيك لا شريك لك لبّيك، إنّ الحمدَ والنِّعمةَ لك والمُلك لا شريكَ لك». وهم متجرِّدُونَ منْ مباهجِ الحياةِ الدُّنيا الفانية، صغيرُهم وكبيرُهم، غنيُّهم وفقيرُهم، كلُّهم عندَ اللّه سواءٌ لا يتفاضلونَ إلّا بالتَّقوى كما أخبرَنا حبيبُنا وعظيمُنا سيّدُنا محمّدٌ صلى الله عليه وسلّم فقال: «لا فَضْلَ لِعَرَبِيٍّ على عَجَمِيٍّ إلا بالتَّقوَى» رواه البيهقي.
والحجُّ فيه تعويد للإنسانِ على الصبرِ وتحمُّلِ المشاقِّ، وهو بابٌ كبير للخَيراتِ والثوابِ والتنافسِ على فعلِ الطاعاتِ التي هي زادٌ للآخرةِ، يقولُ اللّه تبارك وتعالى: ﴿ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ (197)﴾ سورة البقرة.
أيّها الإخوة والأخوات،
عندَما يرفعُ الحاجُّ صوتَه بالتلبيةِ قائلًا: لبّيك اللّهم لبّيك فإنَّ هذا الموقفَ والنداءَ يُذكّرُنا بيومِ القيامةِ عندما ينفُخُ إسرافيلُ عليه السلامُ بالصُّورِ وتنشقُّ القبورُ ويخرجُ النّاسُ منْ قبورِهم أفواجًا وهم على ثلاثةِ أقسامٍ قسم طاعمونَ كاسونَ راكبون وهمُ المسلمونَ الأتقياءُ الّذين أدَّوا الواجباتِ واجتنبوا المحرّمات، وقسم يكونونَ حفاةً عراةً وهمُ المسلمونَ العصاة أصحابُ الذنوبِ الكبائر، وقسم يُجرُّونَ على وجوهِهم إهانةً لهم وهمُ الكفارُ.
والسّعيُ بين الصّفا والمروة رمزٌ لإحياءِ أثرٍ من الآثارِ القديمةِ المباركةِ، ففي ذلك المكانِ المبارك من مكةَ المكرّمة كانت السيّدةُ هاجرُ مع ولدِها إسماعيل وحدَهما بغيرِ ماءٍ، فما زالتْ تتردَّدُ في تلك البقعةِ المباركة بحثًا عنِ الماء لها ولابنها بينَ الصفا والمروة متوكّلةً على اللّه حتى كشفَ اللّهُ كربَتَهَا وأخرجَ لها ماءَ زمزم المبارك.
والوقوفُ بعرفةَ فيه حكمةٌ عظيمةٌ فعندَما يرَى الحاجُّ الحُجَّاجَ بالآلافِ فوقَ عرفات يتذكّرُ يومَ القيامةِ وما فيه منْ مواقفَ عظيمة.
وأما رميُ الجمارِ فلنَا فيهِ حكمةٌ عظيمةٌ أيضًا، ففضلًا عن أنه امتثالٌ لأوامرِ اللّهِ تعالى يتذكرُ الحاجُّ عند رمي الجمرات كيفَ ظهرَ الشيطانُ لسيِّدِنَا إبراهيمَ ليُوَسْوِسَ له، فرماهُ سيّدُنا إبراهيمُ بالحصى إهانةً له، ونحن أُمِرْنا بهذا الرميِ إحياءً لسُنَّةِ إبراهيمَ عليه الصّلاةُ والسّلام.
أما الطَّوافُ حولَ الكعبةِ فهو أمرٌ تَعبُّديٌّ ومظهرٌ منْ مظاهرِ العبوديةِ للّهِ وحدَه وامتثالٌ لأمرِه، لأنَّهُ هو الّذي أمرَنا بالطوافِ حولَ بيتِه المشرّف الكعبة كما أمرَنا باستقبالِ ذلك البيت عندَ الصلاةِ.
وليس معنى الطواف أنّ اللّهَ ساكنٌ في الكعبةِ، فالمسلمُ يعتقدُ أنّ اللّهَ سبحانه وتعالى موجودٌ بلا كيفٍ ولا مكانٍ وأنه ليس كمثلِه شىء، ليسَ ساكنًا في الكعبةِ وليس ساكنًا في السماء، وليس حالًّا في الأمكِنَةِ كلِّها، ولا يشبهُ المخلوقات، لا يُشبهُ الإنسانَ ولا غيرَه ، ليس له جسم ولا صورة ولا هيئة، مهما تصوّرت ببالك فاللّه بخلافِ ذلك.
إنّ الحجّ عبادةٌ مباركةٌ يدأب فيها البدن، ويُبذل من أجلها المال. تتلاقى الأفئدة وتجتمع الأبدان في تلك الديار المباركة، وتجول الأجسام في المشاهد والمواطن، عند الكعبة المشرفة، في أُحد، في غار ثور، في عرفات، في البقيع، عند القبة الخضراء التي تظلّل قبرَ سيّد المرسلين وإمام المتقين، قبرَ حبيبِ ربّ العالمين، سيّدنا وحبيبنا وعظيمنا وقائدنا سيّدنا محمّد عليه أفضل الصلاة وأتمّ التسليم.
إنّ تلك المواقف والمشاهد ليست جزءًا من تاريخ الأمة فحسب بل إنها باعثٌ على الاعتبار والتبصُّرِ والتفكُّر، ودافعٌ إلى التزوّد من هذه الدنيا بزادِ التقوى الذي هو خيرُ زاد فالتقوى أنيس المؤمن في قبره حين ينقضي الأمل ويتوقف العمل ويصبح تحت التراب.
إنّ الحجَّ فرصةٌ للإنابة إلى اللّه، والتطهّرِ من الأدران، وجلاء القلوب وتنقية النفوس، والسمو بالأخلاق إلى مكارمها، والابتعاد عن صغائرِ الأمور وسفاسفها.
أيها الإخوة والأخوات،
ها هي الشهور تتعاقب وها هو عيد الأضحى المبارك قد آنَ أوانُه، وحجّاجُ بيت اللّه الحرام يؤدّون مناسكَ الحجّ أفواجًا مهلّلين مكبّرين.
وفي عيد الأضحى المبارك أوصيكم ونفسي بتقوى اللّه العليّ العظيم القائل في محكم كتابه: ﴿وَاعْبُدُواْ اللَّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ﴾ سورة النساء/ 36.
انظروا في هذه الآية نظرة محاسبة للنفس واستعداد للتطبيق كما كان حال أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلّم. فإنّ فيها حثًّا على برِّ الوالدين وكسب رضاهما في حياتهما، والإحسان هو البر والإكرام.
وكم هو مناسب أن نذكِّر بِصِلة الأرحام لأنّ قطيعةَ الرحم من الكبائر وهي من معاصي البدن وتحصُل بإيحاشِ قلوب الأرحام وتنفيرها، إمّا بترك الإحسان بالمال في حال الحاجة النّازلة بهم أو ترك الزيارة بلا عذر. والمراد بالرّحم الأقارب كالجدّات والأجداد والخالات والعمّات وأولادهنّ والأخوالِ والأعمام وأولادهم ونحوِهم. وقطيعة الرحم من أسباب تعجيل العذاب في الدنيا قبل الآخرة.
ثم نُوصي بالإحسان إلى المحتاجين، والتواصلِ معهم، ومساعدةِ الفقراء والمساكين، وزيارةِ القبور فإنها تُذكّر بالآخرة.
كما ننصحُ بالسّعي لطلبِ علم الدين فعلمُ الدين هو الحصن الحصين الذي يحمي من المخاطر والزلل والفتن.
ونوصيكم بما أوصى به المرشدُ المحدّث الشيخُ عبد اللّه الهرري رضي اللّه عنه، بالتمسّكِ والعملِ بكتابِ اللّهِ تعالى وسنَّةِ نبيِّه صلى الله عليه وسلّم. وبالتحابِّ والتناصح في اللّه، والحذرِ من إيثار المال على الآخرة، فكونوا كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلّم: «المؤمنُ للمؤمنِ كالبُنْيَانِ يشد بعضُه بعضًا» رواه البخاري.
وأخيرًا،
أسأل اللّهَ سبحانه وتعالى أن يغفرَ لنا ذنوبَنا ويرحمَنا برحمته الواسعة، وأن يتقبَّل منّا ومن الحجّاج صالحَ الأعمال. وأسألُه تعالى أن يجعلنا من المتقين، ويُميتنا على كلمة التوحيد، ويجمعنا بكم مع النّبيين والصدّيقين والشهداء في أعلى عليين.
وأطلب منكم الدعاء لنا بالتوفيق والفلاح.
وفّقنا اللّه وإيّاكم وتقبّل منا ومنكم صالحَ الأعمال.█