الحمد للّه ربّ العالمين له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله الطاهرين وصحابته الطيّبين.
بعد أن تكلّمنا عن الحكمة في بعثة الأنبياء وذكرنا كيف حصل الشرك بين الناس في المقال السابق، نتكلّم في هذا المقال عمّا يجب للأنبياء وما يستحيل عليهم صلوات ربّي وسلامه عليهم أجمعين.
اعلموا رحمكم اللّه بتوفيقه أن علماء التوحيد الأكابر ذكروا في كتبهم ما يجب للأنبياء من صفات وما يستحيل عليهم حتى يحفظ ويصان مقام ومنصب النبوّة الرفيع من أن تمتد إليه ألسنةُ العابثين المارقين فينسبوا إلى الأنبياء ما لا يليق بهم فيهلكوا، فقالوا: يجب للأنبياء صلوات اللّه عليهم أجمعين الصدق ويستحيل عليهم الكذب، فصفة الصدق إخوة الإيمان ملازمة للنبوّة، فلا يَصِحُّ لأي نبيّ أن يصدر منه ما يُخِلُّ بالمروءة كالكذب والخيانة وأكل أموال النّاس بالباطل وغيرها من الصفات القبيحة لأنّ هذه الصفات لا تليق برجل عادي، فكيف بنبيّ مقرّب أو رسول مكرّم، ولو جاز وقوع الكذب من الأنبياء لما أصبح هناك ثقة في ما ينقلونه من أخبار الوحي أو ما يروونه عن اللّه عزّ وجلّ. ولقد اشتهر رسول اللّه صلى الله عليه وسلّم بين قومه ومنذ صغره وبداية نشأته ونعومة أظفاره بالصدق والأمانة والنّزاهة فلم تُجرّب عليه صلى الله عليه وسلّم كذبة واحدة قَطُّ في كل هذه المدّة التي قضاها قبل أن ينزل عليه الوحي وهي أربعون سنة حتى كان المشركون من أهل بلده مكة المكرمة يسمّونه بالصادق الأمين، فالكذب إخوة الإيمان نقص ينافي منصب النبوّة.
ويجب أيضًا إخوة الإيمان للأنبياء الكرام الفطانة أي شدّة الذكاء، فكل الأنبياء يا أخي المسلم كانوا أذكياء فطناء أصحاب عقول كاملة قوية الفهم، فيستحيل عليهم إذًا البلادة والغباوة فليس فيهم بليد الذهن أي من هو ضعيف الفهم لا يفهم الكلام بسرعة إلا بعد أن يُكرَّر عليه عدّة مرّات.
وليس في الأنبياء عليهم السلام مَنْ هو ضعيف عن إقامة الحُجّة على منْ يُعارضه بالبيان لأنهم بُعثوا لبيان الحق فلا يَليقُ بهم أن يكونوا قاصرين عن إقامة الحجّة على مَنْ جانب الحق وعاداه، قال اللّه سبحانه وتعالى في حجّة نبيّه إبراهيم عليه السلام على قومه: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا ءاتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾ سورة الأنعام/83.
واعلم أخي المسلم رحمك اللّه بتوفيقه أن أمر الفطانة والذكاء مهم في الدعوة إلى دين اللّه عزّ وجلّ، لذلك كانت الفطانة وهي شدّة الذكاء من الصفات الواجبة للأنبياء شرعًا وذلك لأنهم لو كانوا أغبياء لنفر الناس منهم لغباوتهم واللّه سبحانه وتعالى حكيم لا يبعث لهداية الخلق نبيًّا غبيًّا. وإذا كان البشر العاديّون في الغالب يعتريهم النقص في الفهم، وتضعف عقولهم وربّما وصل البعض منهم إلى حالة الخرف عند بلوغ سن الشيخوخة فإنَّ الأنبياء الكرام يظلّون في القمّة العليا من رجاحة العقل وقوّة التفكير، مهما طال بهم العمر وتقلّبت بهم الأيّام، لأن اللّه تعالى قد أحاطهم بعنايته، وحفظهم برعايته ولا يمكن أن تضعف حواسهم الفكرية وتتعطّل مواهبهم العقليّة قال اللّه تعالى: ﴿ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)﴾ سورة الجمعة.
ويجب للأنبياء عليهم السلام الأمانة فيستحيل عليهم الخيانة في الأقوال والأفعال والأحوال قبل النبوّة وبعدها. فإذا استنصحهم شخص لا يكذبون عليه ولا يوهمونه خلاف الحقيقة، وإذا وضع عندهم شخص أمانة ووديعة لا يُضيّعونها ولا يُنكرونها، والنبيّ أخي المسلم أمين على الوحي، يُبلّغ أوامر اللّه ونواهيه إلى عباده على التمام، دون زيادة أو نقصان ودون تحريف أو تبديل أو تشويه ونحوه امتثالًا لقول اللّه تعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلاَّ اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39)﴾ سورة الأحزاب.
فالأنبياء الكرام إخوة الإيمان أدّوا الأمانة وبلّغوا الرسالة على الوجه الأكمل، وقد ورد في القرءان الكريم أنّ نبيّ اللّه هودًا عليه السلام قال لقومه ما أخبرنا اللّه به في القرءان: ﴿قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68)﴾ سورة الأعراف.
واعلم يا أخي القارئ رحمك اللّه بتوفيقه أنه ممّا يجب للأنبياء الصيانة فيستحيل عليهم الرذالة كاختلاس النظر بشهوة إلى المرأة الأجنبية عدا الزوجة ومن تحِلُّ له وكسرقة حبة عنب، وكذلك يستحيل عليهم الجبن فأنبياء اللّه هم أشجع خلق اللّه، وقد قال بعض الصحابة في بيان شجاعة نبيّنا الأعظم صلى الله عليه وسلّم: «كنّا إذا حَمِي البأس –أي اشتدت الحرب- ولقي القوم القوم اتقينا
برسول اللّه صلى الله عليه وسلّم » رواه الحاكم.
وقد ورد أخي المسلم أن اللّه عزّ وجلّ أعطى نبيّنا الأعظم صلى الله عليه وسلّم قوّة أربعين رجلًا من الأشدّاء.
فمن نسب إلى الأنبياء الكذب أو الخيانة أو الرذالة أو السفاهة أو الجبن أو نحو ذلك فقد كفر والعياذ باللّه.
وليعلم إخوة الإسلام والإيمان أنّ كل الأنبياء فصحاء الكلام، فليس فيهم من يكون في لسانه عقدة وحُبسة أو يعجل في كلامه فلا يطاوعه لسانه، وليس فيهم تأتاء ولا ألثغ ولا أَرَتّ، والألثغ هو الذي يُصَيّر السين ثاء، وأمّا الأرتّ فهو الذي في لسانه حُبسة ويعجل في الكلام ولا يطاوعه لسانه. واعلم أخي المسلم أنّ ما حصل مع نبيّ اللّه موسى عليه السلام الذي تأثّر لسانه بالجمرة التي تناولها ووضعها في فمه حين كان طفلًا أمام فرعون الطاغية، فقد كان ذلك لحكمة عالية وما تركتْ تلك الجمرة في لسانه أن يكون كلامه غير مفهم للناس إنما كانت مجرد عقدة خفيفة أي بطء من أثر تلك الجمرة، ومع ذلك فقد كان كلامه مُفْهِمًا لا يُبَدّل حرفـًا بحرفٍ بل يتكلّم على الصواب، ثمّ دعا عليه السلام ربَّه لما نزل عليه الوحي أن يزيل عنه هذه العقدة فأذهبها اللّه تبارك وتعالى عنه، فافهم ذلك أخي المسلم واللّه يتولّى هداك.
سلامة الأنبياء من الأمراض والعاهات الـمُنَفّرة
اعلموا رحمكم اللّه بتوفيقه أن جميع الأنبياء كانوا ذوي حسن وجمال في الشكل والصورة وفي الصوت، وإن نبيّنا المصطفى صلى الله عليه وسلّم هو أجمل وأحسن الأنبياء وجهًا وصورة وأحسنهم وأجملهم صوتًا، وفي هذا يقول النبيّ الأعظم صلى الله عليه وسلّم: «ما بَعَثَ اللّه نبيًّا إلا حَسَنَ الوجه حَسَن الصوت وإن نبيَّكم أحسنُهم وجهًا وأحسنُهم صوتًا» رواه الترمذي. فالأنبياء إخوة الإيمان كانوا كلّهم ذوي حُسن وجمال في صورتهم وصوتهم وهم صفوة خَلْقِ اللّه اختارهم اللّه تعالى من بين عباده ليبلّغوا رسالات اللّه إلى الناس وليدلّوهم على ما فيه خيرهم وسعادتهم في الدنيا والآخرة. وكذلك إخوة الإيمان سلّم اللّه عزّ وجلّ أنبياءه من الأمراض المنفّرة فلا تصيبهم تلك الأمراض لأنهم إنما بعثوا ليعلّموا الناس ويخالطوهم، والأمراض المنفّرة تنافي هذا الغرض من إرسالهم. أمّا المرض المؤلم الشديد حتى لو كان يحصل منه إغماء أي غشي فإنّه يجوز عليهم كما حصل ذلك للنبيّ صلى الله عليه وسلّم في مرضه الذي توفي فيه، وكما كان يحصل لنبيّ اللّه نوح عليه السلام حينما كان قومه يضربونه عندما كان يدعوهم إلى دين اللّه الإسلام فيسقط على الأرض مغشيًا عليه.
واعلم أخي المسلم رحمك اللّه بتوفيقه أنّ الأنبياء جميعهم كانوا أصحاب خِلْقَة سَويّة. فلم يكن فيهم أعرج ولا كسيح ولا أعمى، وإنما سيّدنا يعقوب عليه السلام مِنْ شدّة بكائه وحزنه على فراق ولده يوسف عليه السلام ابيضَّتْ عيناه وعَمِيَ لمدّة يعلمها اللّه تعالى وليس كل حياته، ثم ردّ اللّه تعالى بقدرته بصره عليه، وذلك لما أرسل سيّدنا يوسف عليه السلام قميصه المبارك من مصر ليضعوه على عيني أبيه ليرجع بصره بإذن اللّه، فشَمَّ يعقوب عليه السلام ريح يوسف عن بُعد من هذا القميص،
فنبيُّ اللّه يعقوب عليه السلام لم يكن أعمى مِنْ أَصْلِ الخِلْقة، إذ النبيّ كما يقول العلماء أول ما ينزل عليه الوحي لا بدّ أن يكون بصيرًا، ثم بعد ذلك يجوز أن يعمى لمدة كما حصل ذلك لنبيّ اللّه يعقوب عليه السلام كما أسلفنا.
واعلم أخي المسلم وفّقك اللّه لنيل الخير واعتقاد الحق أنه ليس صحيحًا ما يُروى من أن سيّدنا أيوب عليه السلام اشتدّ به المرض حتى خرج الدود من بدنه الشريف حاشاه، إذ لا تجوز هذه الأمراض المنفّرة على أنبياء اللّه تعالى، فاللّه تبارك وتعالى حكيم لا يبعث نبيًّا ويبتليه بمرض ينفّر منه الناس، فإن نسبة الأمراض المنفّرة إلى أحد من الأنبياء هو يا أخي الكريم من الأباطيل والأكاذيب المدسوسة التي نُقلت عن الإسرائيليّات ولا يصح تصديقها أو اعتقادها بل يجب التحذير منها لأنها تتنافى مع صفات الأنبياء الكرام. ثم ليعلم أن القرءان الكريم لم يذكر لنا شيئًا مِنْ هذه الأباطيل والأكاذيب وإنما الذي ذُكر في القرءان أن أيوب عليه السلام قد أصابه الضرّ في بدنه فدعا ربّه بعد أن اشتدّ به الكرب والضُّرّ فكشف اللّه تعالى ما أصابه من ضرّ وكرب وبلاء، قال اللّه تعالى: ﴿وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِن ضُرٍّ وَءاتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُم مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)﴾ سورة الأنبياء. فالظاهر من هاتين الآيتين إخوة الإيمان أن الضرّ الذي أصاب نبيّ اللّه أيوب عليه السلام كان في جِسْمه وأهله، وهذا النوع من الضرّ يلحق البشر العاديين وكذلك يلحق الأنبياء الكرام عليهم السلام، فإن المرض أخي المسلم يعتري الأنبياء عليهم السلام كما يعتريهم الموت، وليس في ذلك شىء ينقص من قدرهم عند اللّه أو يزري بمقامهم الشريف، بل هم أشدّ الناس بلاء كما أخبر بذلك النبيّ المصطفى صلى الله عليه وسلّم، فعن مصعب بن سعد عن أبيه أنه قال: يا رسول اللّه مَنْ أشدُّ الناس بلاء؟ قال: «الأنبياءُ ثمَّ الأمثلُ فالأمثلُ ويُبتلَى العبدُ عَلَى حَسَبِ دِينه» رواه ابن حبان.
واعلموا إخوة الإيمان رحمكم اللّه بتوفيقه أنه تجب للأنبياء الكرام الشجاعة ويستحيل عليهم الجبن فليس في الأنبياء جبان ومَنْ هو ضعيف القلب، بل أنبياء اللّه عليهم السلام هم أشجع
خلق اللّه على الإطلاق وأما الخوف الطبيعيّ فلا يستحيل عليهم، بل هو موجود فيهم، وذلك مثل النفور من الحيّة، فإنّ طبيعة الإنسان أخي المسلم تقتضي عادة النفور من الحيّة وما أشبه ذلك كالخوف من تكالب الكفّار عليهم حتى يقتلوهم، فإن ذلك كما قال العلماء الأجلّاء جائز عليهم. واعلم أخي المسلم أنه لا يقال عن النبيّ صلى الله عليه وسلّم إنه هرب من الكفار لأن هذا السياق يشعر بالجبن، وأما إذا قيل: «فرّ من الأذى مثلًا» فلا يشعر هذا بالجبن، فيقال: النبيّ صلى الله عليه وسلّم هاجر فرارًا من الكفّار أي من أذى الكفار فهذا جائز في حقّهم وما فيه نقص، وعلى هذا المعنى قول اللّه تعالى إخبارًا عن نبيّه موسى عليه السلام أنه قال: ﴿فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ﴾ سورة الشعراء/21.
ولْيُعلم معاشر المؤمنين أن الأنبياء والرسل عليهم السلام تجب لهم شرعًا العصمة وهي حفظ اللّه تعالى لهم من الوقوع في الكفر وفي الذنوب الكبيرة وفي الذنوب الصغيرة التي فيها خسة ودناءة نفس كسرقة حبة عنب.
وأما ما سوى ذلك من المعاصي فتجوز عليهم لكن ينبَّهون فورًا للتوبة قبل أن يقتدي بهم فيها غيرهم وهذا قول أكثر العلماء وعليه كان إمام أهل السنة والجماعة أبو الحسن الأشعري رحمه اللّه تعالى ورضي عنه.
فافهم ذلك أخي المسلم ونزّه أنبياء اللّه تعالى عن كل ما لا يليق بهم من صفات ومَعَايب، فهم القدوة الصالحة والحسنة لأتباعهم المؤمنين، وهم صَفْوة خَلْق اللّه تعالى وأكملهم وأعلاهم مقامًا ودرجة، واللّه يتولّى هُداك، وآخر دعوانا أن الحمد للّه ربّ العالمين.█