الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على نبيّنا محمّد وعلى آله وصحبه الطيّبين الطاهرين.
أما بعد فإن اللّه تبارك وتعالى يقول في كتابه العزيز: ﴿وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآء وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140)﴾ سورة آل عمران.
في الحياة عبر كثيرة وقد سُطِر كثير مما مرّ منها على صفحات التاريخ لا سيّما تلك الأحداث الجسام التي وقعت على ساحات الأمّة المحمّدية.
ومن تلك الأحداث «وقعة الحَرَّة» والتي كانت وصمة عار على من افتعلها لأنها استباحت مدينة الحبيب محمّد صلى الله عليه وسلّم.
وحُكي أنه لما حضرت معاوية الوفاة دعا ابنه يزيد فقال له: إن لك من أهل المدينة يومًا فإن فعلوها فارْمِهم بمسلم بن عقبة فإنه رجل قد عرفت نصيحته لنا.
وسبب وقعة الحرّة أن يزيد بن معاوية ولّى «عثمان بن محمّد بن أبي سفيان» على المدينة المنوّرة فذهب وفد من المدينة إلى يزيد ابن معاوية وعادوا فقالوا: قدمنا من عند رجل يشرب الخمر ويعزف بالطنابير ويلعب بالكلاب وإنا نشهدكم أنّا قد خلعناه، فخلعوه عند المنبر وبايعوا عبد اللّه بن حنظلة -وحنظلة هو الذي أخبر الرسول محمّد صلى الله عليه وسلّم بأن الملائكة قد غسلته لما استشهد في المعركة، ولقب بغسيل الملائكة- وأخرجوا عامل يزيد «عثمان». وكان ابن حنظلة يقول: ما خرجنا عليه حتى خفنا أن نُرمى بالحجارة من السماء.
وكان أهل المدينة قد اتخذوا خندقًا وعليه جمع منهم، وكان عليه عبد الرحمن بن زهير ابن عبد عوف، وهو ابن عم
عبد الرحمن بن عوف، وكان
عبد اللّه بن مطيع على ربع آخر، وهم قريش في جانب المدينة، وكان معقل بن سنان الأشجعي، وهو من الصحابة، على ربع آخر، وهم المهاجرون، وكان أمير جماعتهم عبد اللّه بن حنظلة الغسيل الأنصاري في أعظم تلك الأرباع، وهم الأنصار.
وجاء «مسلم بن قتيبة» فيمن معه -وهو من قبل يزيد بن معاوية-، فأقبل من ناحية الحرّة -المدينة المنورة تقع بين حرتين، والحرة أرض سوداء- حتى ضرب فسطاطه -خيمته- على طريق الكوفة، وكان مريضًا، فأمر فوضع له كرسيٌّ بين الصفين وقال: يا أهل الشام قاتلوا عن أميركم وادعوا. فأخذوا لا يقصدون ربعًا من تلك الأرباع -النواحي التي فيها أهل المدينة المنوّرة للدفاع عنها- إلا هزموه، ثم وجه -قائد الجيش المرسل من قبل يزيد- الخيل نحو ابن الغسيل، فحمل عليهم ابن الغسيل فيمن معه فكشفهم، فانهزموا إلى مسلم –قائدهم-، فنهض في وجوههم بالرجال وصاح بهم، فقاتلوا قتالًا شديدًا.
ثم إنّ الفضل بن عباس بن ربيعة ابن الحارث بن عبد المطلب جاء إلى ابن الغسيل فقاتل معه في نحو من عشرين فارسًا قتالًا حسنًا، ثم قال لابن الغسيل: من كان معك فارسًا فليأتني فليقف معي، فإذا حملت فليحملوا، فواللّه لا أنتهي حتى أبلغ مسلمًا فأقتله أو أقتل دونه. ففعل ذلك وجمع الخيل إليه، فحمل بهم الفضل على أهل الشام فانكشفوا، فقال لأصحابه: احملوا أخرى جُعلت فداكم، فواللّه لئن عاينت أميرهم لأقتلنه أو أقتل دونه. إنه ليس بعد الصبر إلا النصر! ثم حمل وحمل أصحابه، فانفرجت خيل الشام عن مسلم بن عقبة ومعه نحو خمسمائة راجل جثاة على الركب مشرعي الأسنة نحو القوم، ومضى الفضل كما هو نحو راية مسلم فضرب رأس صاحبها، فقطع المِغفَر وفلق هامته وخرَّ ميتًا، وقال: خذها مني وأنا ابن عبد المطلب! وظن أنه مسلم، فقال: قتلت طاغية القوم ورب الكعبة! فقيل له: أخطأت وإنما كان ذلك غلامًا روميًّا فأخذ مسلم رايته وحرّض أهل الشام وقال: شدّوا مع هذه الراية. فمشى برايته وشدّت تلك الرجال أمام الراية، فصرع الفضل بن عباس، فقتل وما بينه وبين مسلم بن عقبة إلّا نحو من عشرة أذرع، وقتل معه زيد بن عبد الرحمن بن عوف رحمات اللّه عليهما.
ثم دنا بعضهم من بعض فأخذ أهل الشام يرمونهم بالنبل، فقال ابن الغسيل لأصحابه: علام تستهدفون لهم! من أراد التعجيل إلى الجنة فليلزم هذه الراية. فقام إليه كل مستميت فنهض بعضهم إلى بعض فاقتتلوا أشد قتال رئي لأهل هذا القتال، وأخذ ابن الغسيل يقدم بنيه واحدًا واحدًا حتى قتلوا بين يديه وهو يضرب بسيفه ثم قتل
عبد اللّه بن حنظلة رحمه اللّه.
ثم إن جيش مسلم دخل المدينة المنورة واستباحها وقتل مقتلة عظيمة من المسلمين ونهبوا منازلها وأخافوا أهلها ثلاثة أيام متتالية. فأفزع ذلك من كان بها من الصحابة، فخرج سيّدنا أبو سعيد الخدري حتى دخل في كهف في الجبل، فرآه رجل من أهل الشام، فجاء حتى اقتحم الغار وسيفه بيده يريد قتل أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه، فأخبره أبو سعيد الخدري بأنه لن يقدم على قتله فسأله الرجل: من أنت؟ فقال : أبو سعيد الخدري. فقال الرجل: صاحب
رسول اللّه؟ فقال له: نعم! فانصرف عنه الرجل.
والنبيّ محمّد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم قال: «من أخاف أهل المدينة ظلمًا أخافه اللّه وعليه لعنة اللّه والملائكة والناس أجمعين» رواه الإمام أحمد في مسنده.
في أثناء وقعة الحرّة كان المسجد النبوي خاليًا إلا من سعيد بن المسيب، وكان يسمع عند دخول أوقات الصلاة الأذان يأتي من جهة قبر النبيّ صلى الله عليه وسلّم!!
وقال المدائني عن شيخ من أهل المدينة قال: سألت الزهري كم كان القتلى يوم الحرة قال: سبعمائة من وجوه الناس من المهاجرين والأنصار، ووجوه الموالي وممن لا أعرف من حر وعبد وغيرهم عشرة آلاف. وكانت الوقعة لثلاث بقين من ذي الحجة سنة ثلاث وستين، وانتهبوا المدينة ثلاثة أيام.
أسماء بعض من قتل في المعركة
قتل من أولاد المهاجرين وقتل من الصحابة: معقل بن سنان الأشجعي وعبد اللّه بن حنظلة الغسيل الأنصاري وعبد اللّه بن زيد بن عاصم المازني. وممن قتل يومئذ:
– محمّد بن ثابت بن قيس بن شماس.
– محمّد بن أبي جهم بن حذيفة.
– محمّد بن أبي بن كعب.
– معاذ بن الحارث أبو حليمة الأنصاري الذي أقامه عمر يصلي التراويح بالناس.
– يعقوب ولد طلحة بن عبيد اللّه التيمي.
– كثير بن أفلح أحد كتاب المصاحف التي أرسلها عثمان.
– أبو أفلح مولى أبي أيوب.
– مسروق بن الأجدع الهمداني الفقيه العابد صاحب ابن مسعود. وكان يصلي حتى تتورّم قدماه. وحجّ فما نام إلا ساجدًا.
وفي سنة أربع وستين في أولها هلك مسلم بن عقبة الذي استباح المدينة وعمل القبائح وما أمهله اللّه. واللّه عزيز ذو انتقام…█