الحمد للّه الذي أنار قلوبَ المؤمنينَ بنور الإيمان، وَأَفضَلُ الصّلواتِ وَأَتَمُّ التّسلِيمِ على إمامِنَا وقائِدِنَا وَسَيّدِنَا وحبيبنا مُحَمَّدٍ سيّد ولد عدنان، وعلى إخْوانِهِ النّبِيّينَ والمرْسَلِين، وصحابته وأهل بيته الغُرّ المحجَّلين، ومن اتبعهم وسار على دربهم بإحسان.

أما بعد، فقد قال اللّه عزّ وجلّ في القرءان الكريم: ﴿إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) سورة التوبة.

ها هي الذكرى العطرةُ تتجدَدُ، وها هي تتألق بمعانيها السامية دروسًا وعبرًا سطَّرها التاريخ في صحائف المجد والبطولةِ والفداءِ. إنها ذكرى الهجرةِ النبويةِ المباركة، هجرةِ سيّدِ الخلقِ وحبيبِ الحق سيّدِنا محمّدٍ ﷺ من أُمّ القرى مكةَ المكرمةِ إلى المدينةِ المنوّرة التي استنارت وطابت بأنواره وبركاته ﷺ. هي ذكرى الهجرةِ التي ارتبطت بها أحداث ومواقفُ بطوليةٌ رائعة كانت تَرجمانًا صادقًا لقوة الإيمان واليقين التي تمكنت في قلوب الصحابة رضوان اللّه عليهم، حُبًّا برسول اللّه وإخلاصًا للّه وتمسكًا بدين الإسلام ورسالتِه الراقية وشريعتِه السمحاء، فها هو أبو بكر الصديقُ يقود ناقةَ
رسولِ اللّه ﷺ متلفتًا يَمنةً ويَــسرةً لــحــمــاية الــحــبــيب المصطفى، وها هو في غار ثور يسدُّ أحد المنافذِ برجله وِقايةً للحبيب من الأذى فتلدغُه عقربٌ فيمسك نفسه من صيحة الألم كي لا يوقظ رسولَ اللّه ﷺ، لولا دمعةٌ انسكبت من خدّه على خدّ حبيبه! فلا يبالي بالألم فداءً
لرسول اللّه. وها هي ابنته أسماءُ تشق نِطاقها نصفين، تتكبد عَناءَ حملِ الزاد إليهما ذهابًا وإيابًا برغم بُعدِ المسافة وأخطار الطريق، فِداءً للنبيّ ﷺ. وها هو الفتى الكرّار وابنُ عمّ المصطفى سيّدنا علي بن أبي طالب ينام في فراش
رسول اللّه ﷺ ويتسجَّى بردائه الأخضر الشريف وأربعون رجلًا من صناديد قريش يحيطون ببيت المصطفى يتهيَّؤون لقتله، وهو هناك وحيدًا لا يبالي، فداءً لرسول اللّه محمّد ﷺ.

كان ذلك قَبسًا من صُوَر مشرقة من حوادثِ الهجرة الشريفة. تركوا أرضهم وديارهم في مكة المكرمة التي هي أحَبُّ أرضٍ إلى اللّهِ تعالى، وفيها الكَعْبة أوّلُ مَسجِد بُني لعبادةِ اللّه على وجهِ الأرض، فهاجروا منها امتثالًا لا جُبنًا ولا فزعًا، وإنما امتثالًا لأمر اللّه تعالى. نعم، لقد هاجر سيّدنا وحبيبنا محمّد ﷺ  إلى المدينة بِوَحْيٍ منَ اللّه تعالى بعدَ أن اشتد أذى الكفّار عليه وعلى صحابته، وكان اللّه قد أراهُ في المنام –ورؤيا الأنبياء حقٌّ ووحيٌ -أنّ الأرضَ التي يهاجِر إليها صِفَتُها كذا وكذا، وكان من قبلُ قد جاءها مع جبريلَ عليه السلام على متن البراق فصلّى فيها ركعتين في ليلة الإسراء والمعراج، فهاجَر إلى المدينة وأقامَ فيها قبل أن يرجعَ إلى مكة فاتحًا منتصرًا.

يا سيّدي يا رسول اللّه، ها هي ذكرى هجرتِكَ قد وافتنا، وحناجرُ المادحين في المشارق والمغارب تردد ما استقبلَكَ به المسلمونَ في المدينة على ثنِيَّات الوداع فرددته الأمة على مرّ العصور:

طلع البدر علينا          من ثنيات الوداع

وجب الشكر علينا       ما دعا لله داع

ونحن اليوم، لئن كان قد فاتنا شرفُ صحبتك واستقبالِك بتلك الأبيات، فإننا نستقبل ذكرى هِجرتك، وقد طلع علينا بدرُ سيرتِكَ المشرقةِ من ثنيات التاريخ يضيء لنا حالكاتِ ليالينا، ففي صدورنا قلوبٌ عامرة بحبّك، ومتعلقة بنهجك. قلوبٌ بايَعَتْكَ على الإخلاص والفداء لدينك العظيم وتعاليمك السمحاء. نردد اليوم: طلع البدر علينا ونستذكرُ تلك اللحظات الرائعة التي آخى فيها رسول اللّه بين المهاجرين والأنصار، فصار المسلمون على قلب رجل واحد، مَثَلُهم كَمَثَلِ البنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضًا، ففتحوا البلاد ونشروا الخير ورفرفت على أيديهم رايةُ الإسلام خفّاقةً عالية.

لــقد صــبرتَ يا سيّــدي يا رسول اللّه ولم تكن لتتركَ الدعوةَ إلى اللّه، ولم يكن إيذاءُ المشركين لك ولمن معك ليثبطَ همتك عن المضِي قدُمًا في نشر الدعوة إلى اللّه.

يا سيّدي يا رسول اللّه، من هجرتك الشريفة ننهلُ معانيَ الصبرِ على الشدائد والبلايا وكافـّةِ أنواعِ الظلم والاستبداد، والصمودِ في وجه الباطل، والوقوفِ إلى جانب الحق في شجاعة وحزم وعزم، ومضاعفةِ الجهدِ في سبيل نشر دين اللّه بالحكمة والموعظة الحسنة.

علّمتنا يا سيّدي أن هذه الدنيا مزرعةُ الآخرة فقلتَ وقولك النورُ والحقُّ: «الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر». وفصّلتَ فبيّنت: «الدنيا سجنُ المؤمن وسَنَتُهُ فإذا فارق الدنيا فارق السِجن والسَّنة» رواه الإمام أحمد.

أيها الإخوة والأخوات… إن هذه الدنيا جعلها اللّه دارًا للعمل فطوبى لمن آمن وبرَّ واتقى. هذه الدنيا  قد اشتغل فيها أنبياء اللّه تعالى بالطاعات، وأمروا فيها بالهدى وعمل الخير، وشيّدوا فيها بنيان التوحيد المتين، وعلّموا الناس أحكام الإيمان وما تكون به نجاتُهم في يوم القيامة.

وما أشبهَ اليومَ بالأمسِ، وظلامُ الفِتَن والنكباتِ يتعاظمُ ويستفحِلُ، وسبيلُ الخلاص واحد، يقول تعالى في محكم التنزيل: ﴿وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ سورة آل عمران/103.

ما أحوجنا اليومَ إلى الاقتداءِ بالنبيّ العظيم ﷺ، والاستفادةِ من دروس الهجرة المباركة وعِبَرِها وما فعله الصَّحابةُ من مهاجرين وأنصارٍ من التفافٍ حولَ النبيّ ونهجِ الحق وما قدّموه وما كابدوه من مصاعبَ لينصروا دينَ اللّه تعالى.

لنكن من المصلحين الذين يُصلحون ما أفسدَ الناسُ، وَيَثبتون على نهج النبيّ ﷺ رغم المصاعب والمكايد، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر حتى يأتيهم الموت، فينطبق عليهم حديثُ رسول اللّه ﷺ: «بدأ الدين غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ فطوبى للغرباء». قيل: من الغرباء يا رسول اللّه. قال: «الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي» رواه الطبراني وغيره.

إخواني وأخواتي، سَتَبقى بإذن اللّه الحِكمَةُ مَنْطِقَنَا، والحَقُّ نهجَنا، والاعتدالُ مسيرتَنا، وَسَتَبقى توجيهات العلامة الشيخ عبد اللّه الهرري رحمه اللّه، وكلمات الشهيد الشيخ نزار الحلبي رحمه اللّه، منَارَةً نسترشد بها، وستبقى جمعيّةُ الْمَشَاريعِ الخيرية الإسلامية كَمَا عَرَفتُمُوهَا جمعيةَ خير ووسطية واعتدال.

فجمعية المشاريع باليد البيضاء تُعرف، وبالثوب النقي تشتهر. والمشاريعيون أينما وُجدوا هم دُعاة خير وتَديُّن، لا إفراطَ فيه ولا تفريط، ولا تخلُّفَ ولا تَطَرُّفَ.

والمشاريع جمعية علم ومعرفة، مهما اشتد ظلام الجهل، فقد تعلَّمنا وعَلَّمنا ما جمعه أئمة أهلِ السنة والجماعة من أشاعرة وماتريدية في تقرير أمور العقيدة الإسلامية كما جاء بها رسولُ اللّه محمّد ﷺ، ولا نخرجُ عما أجمع عليه علماء أهل السنة والجماعة من أصحاب المذاهب المعتبرة كالشافعي وأبي حنيفة ومالكٍ وأحمد.

هذا هو المنهج العلمي الذي أرساه العالم العلامةُ الشيخُ
عبدُ اللّه الهرريُ رحمات اللّه عليه.

وقد اجتمعنا في رحاب جمعية  المشاريع على حبّ اللّهِ وحبّ نبيّه، وعلى هذه المحبّة نرجو أن نجتمع معكم في جنّات النعيم، تحت لواء سيّدِ السادات محمّدِ بن عبد اللّه ﷺ.

وفي الختام، أسال اللّه سبحانه وتعالى أن يُعيد هذه المناسبةَ علينا وعلى إخواننا في فلسطينَ وفي بلادنا العربية والإسلامية، وعلى المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، بالخير والطمأنينة ووحدةِ الصفِ والكلمة، وأسأله أن يرفع عنا البلاءَ، وأن ييسرَ للأمة سُبُلَ الخلاص من شرور الأعداء المتربصينَ بها في الداخل والخارج.

وكل عامٍ وأنتم بخير، ووطننا بخير، وأمتنا بألف خير.