روى أبو داود وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول اللّه ﷺ أنه قال: «إنّ اللّهَ يبعثُ لهذه الأمّةِ على رأسِ كلّ مائةِ سنةٍ من يُجدّد لها دينها». وهذا الحديث فيه إشارة إلى ما منَّ اللّه تعالى به على أهل الإسلام من أئمة هداة وعلماء أعلام صالحين جعل اللّه فيهم أسرارًا وجدّد بهم آثارًا وبيّن بهم طريق الحق وردع بهم أهل الزيغ والضلال. وقد ألّف السيوطي أرجوزة ذكر في أبياتها اللطيفة «مجدّدي العصور»، وفي باب «أعلام المسلمين» هذه السنة نتناول التعرّف على هؤلاء الذين قيل فيهم إنهم كانوا مُجدّدي قرونهم. كنا قد تحدثنا في المقالة السابقة عمن قيل فيه إنه مجدد القرن الخامس الهجري وهو الإمام الغزالي رحمه اللّه. واليوم حلقتنا تتناول من قيل فيهم إنهم مجددو القرن السادس، وقد ذكروا الإمام فخر الدين الرازي والحافظ عبد الغني المقدسي رحمهما اللّه. ونتناول في هذه الحلقة بسط ترجمة هذين الإمامين.
الفخر الرازي
هو الإمام التقي الورع الزاهد محمد بن عمر بن الحسن بن الحسين التيمي البكري، أبو
عبد اللّه فخر الدين الرازي الإمام المفسر العالم الفاضل الذي ردّ على أهل البدع والأهواء فكسرهم وردّهم على أعقابهم.
مولده
ولد الإمام سنة ثلاث وأربعين وقيل أربع وأربعين وخمسمائة.
وكان أول أمره فقيرًا ثم فتحت عليه الأرزاق وانتشر اسمه وبعُدَ صيته وقصده من أقطار الأرض طلّاب العلم.
كانت له اليد الطولى في الوعظ باللغة العربية والفارسية، وكان من أهل الدين والتصوُّف وله تفسير للقرءان الكريم.
عبر إلى خوارزم بعدما مهر في العلوم فجرى بينه وبين المعتزلة مناظرات أدت إلى خروجه منها ثم قصد بلاد ما وراء النهر فجرى له أشياء نحو ما جرى بخوارزم فعاد إلى الرَيّ ثم اتصل بالسلطان شهاب الدين الغوري وحظي عنده ثم بالسلطان الكبير علاء الدين خوارزمشاه محمّد بن تكُش ونال عنده أسنى المراتب واستقر عنده بخراسان.
واشتهرت مصنفاته في الآفاق وأقبل الناس على الاشتغال بها، وأقام بهراة وكان يلقب بها بشيخ الإسلام وكان كثير الازدراء بالكرامية وهي طائفة مجسمة منحرفة، قيل إنهم وضعوا عليه من سقاه سمًّا فمات.
وكان خوارزمشاه يأتي إليه، وكان إذا ركب يمشي حوله نحو ثلاثمائة نفس من الفقهاء وغيرهم.
وكان شديد الحرص أمينًا في إعطاء العلوم الشرعية، وصحبه خلق كثير تعظيمًا له وتأدبًا معه لما له عندهم من المهابة والوقار.
وفاته
توفي الإمام رحمه اللّه في هراة في يوم الاثنين يوم عيد الفطر سنة ست وستمائة وله بضع وستون سنة.
الحافظ عبد الغني بن
عبد الواحد المقدسي
هو الإمام العالم الحافظ الكبير الصادق القدوة العابد الأثري -نسبة إلى عنايته بأحاديث النبيّ عليه أفضل الصلاة والتسليم- الحافظ تقي الدين أبو محمّد عبد الغني بن عبد الواحد بن علي بن سرور بن رافع بن حسن ابن جعفر المقدسي الجماعيلي ثم الدمشقي المنشأ الصالحي الحنبلي، صاحب «الأحكام الكبرى» و«الصغرى».
ولد سنة إحدى وأربعين وخمسمائة بجماعيل في ربيع الآخر.
سمع الكثير بدمشق، والإسكندرية، وبيت المقدس، ومصر، وبغداد، وحران، والموصل، وأصبهان، وهمذان، وكتب الكثير.
سمع من أبي الفتح ابن البطي، وأبي الحسن علي بن رباح الفراء، والشيخ عبد القادر الجيلي،
وهبة اللّه بن هلال الدقاق، وأبي زرعة المقدسي، ومعمر ابن الفاخر، وأحمد بن المقرب، ويحيى ابن ثابت، وأبي بكر بن النقور، وأحمد بن عبد الغني الباجسرائي، وغيرهم ببغداد، والحافظ أبي طاهر السّلفي، فكتب
عنه نحوًا من ألف جزء ولم يزل يطلب ويسمع ويكتب ويسهر ويدأب ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويتقي اللّه ويتعبد ويصوم ويتهجد وينشر العلم إلى أن مات.
صفته
قال الضياء المقدسي: وكان ليس بالأبيض الأمهق -الذي لا يخالطه حمرة- بل يميل إلى السمرة، حسن الشعر كث اللحية، واسع الجبين، عظيم الخلق، تام القامة، كأن النور يخرج من وجهه، وكان قد ضعف بصره من البكاء والنسخ والمطالعة.
حفظه
قال ضياء الدين أبو عبد اللّه المقدسي: كان شيخنا الحافظ لا يكاد يُسأل عن حديث إلا ذكره وبيّنه، وذكر صحته أو سقمه، ولا يسأل عن رجل إلا قال: هو فلان بن فلان الفلاني ويذكر نسبه، فكان أمير المؤمنين في الحديث. قال ضياء الدين: سمعته يقول: كنت عند الحافظ أبي موسى -وهو محمّد ابن أبي بكر الأصبهاني- فجرى بينه وبين رجل منازعة في حديث، فقال الرجل: هو في صحيح البخاري، فقلت -أي ضياء الدين-: ليس هو فيه، قال: فكتبه في رقعة، ورفعها إلى أبي موسى يسأله، قال: فناولني أبو موسى الرقعة، أي إلى الحافظ عبد الغني وقال: ما تقول؟ فقلتُ: ما هو في البخاري، فخجل الرجل.
وقد قيل فيه إنه مجدد القرن السادس الهجري.
توفي سنة ستمائة للهجرة رحمه اللّه ونفعنا به..
والحمد للّه ربّ العالمين.█