إن اللّه سبحانه وتعالى قيّض لهذا الدين رجالًا علماء عاملين مخلصين دافعوا عن الدين إما بالسنان وإما باللسان.
ومن هؤلاء السلطان السلجوقي ألب أرسلان الذي تسلّم الملك فأبطل مسبة الأشاعرة على المنابر، وانتصر للشافعية، وأكرم إمام الحرمين أبا المعالي الجويني وأبا القاسم القشيري رضي اللّه عنهما، وللسلطان ألب أرسلان مناقب كثيرة، فقد كان شجاعًا شهمًا قاد الجيوش وكسر شوكة الأعداء وحمى دين الإسلام.
وسنذكر له منقبة عظيمة في معركة قادها ضد جيش الروم ذكرت في كتب التواريخ لما لها من أهمية كبيرة.
تفاصيل المعركة
في سنة 463 هـ خرج أرمانوس ملك الروم في مائتي ألف مقاتل من الروم والفرنج وغيرهم من طوائف تلك البلاد، فجاؤوا في تجمّل كثير وزيّ عظيم وقصدوا بلاد الإسلام فوصلوا إلى «منازكرد»، وهي بلد مشهور بين «خلاط» وبلاد الروم.
فبلغ السلطان ألب أرسلان الخبر وهو في «خُوَيّ» من أذربيجان وسمع عن جيش الروم من كثرة الجموع، فلم يتمكن من جمع العساكر لبعدها وقرب العدو. فسار هو فيمن معه من العساكر وهم خمسة عشر ألف فارس، وأسرع في السير وقال لهم: إني أقاتل محتسبًا صابرًا فإن سلمتُ فنعمة من اللّه وإن كانت الشهادة فإن ابني ملكشاه ولي عهدي.
فلما قاربوا العدو جعل السلطان له مقدمة من الجيش، فصادفت مقدمته مقدمة الأعداء وأُسر قائدهم.
ثم لما تقارب العسكران أرسل السلطان إلى ملك الروم يطلب منه المهادنة، فرفض ملك الروم فانزعج السلطان لذلك فقال له إمامه وفقيهه أبو نصر محمّد ابن عبد الملك البخاري الحنفي: إنك تقاتل عن دين اللّه وقد وعد اللّه بنصره وإظهاره على سائر الأديان، وأرجو أن يكون اللّه تعالى كتب باسمك هذا الفتح، فالْقهم يوم الجمعة بعد الزوال في الساعة التي يكون الخطباء على المنابر فإنهم يدعون للمجاهدين بالنصر، والدعاء مقرون بالإجابة.
المعركة
فلما كانت تلك الساعة صلّى السلطان ألب أرسلان بالجيش وبكى فبكى الناس لبكائه ودعا فدعوا معه وقال لهم: من أراد الانصراف فلينصرف وألقى القوس والنشاب وأخذ السيف ولبس البياض وقال: إن قتلت فهذا كفني، وزحف إلى الروم وزحفوا إليه، فلما قاربهم ترجّل وعفّر وجهه بالتراب وبكى وأكثر الدعاء، ثم ركب وحمل العساكر معه فدخل المسلمون بينهم في وسطهم وحجز الغبار بينهم وعَمِل المسلمون فيهم كيف شاؤوا، وأنزل اللّه نصره عليهم فانهزم الروم وقتل منهم عدد كبير وأُسر ملك الروم وأحضر بين يدي السلطان ألب أرسلان فقال له السلطان: ألم أرسل لك في الهدنة فأبيت؟ فقال ملك الروم: دعني من التوبيخ وافعل ما تريد، فقال له السلطان: ما كنت فاعلًا بي إن أسرتني؟! فقال ملك الروم: أفعل القبيح، قال له: فما تظن أني أفعل بك؟ قال ملك الروم: إما أن تقتلني وإما أن تشهرني في بلاد الإسلام، والأخرى البعيدة وهي العفو وقبول الأموال.
فقال السلطان ألب أرسلان: ما عزمت على غير هذا، ففداه بمليون وخمسمائة ألف دينار، وعلى أن يطلق كل أسير في بلاد الروم فقام ملك الروم وسأل السطان ألب أرسلان: أين تقع جهة إقامة خليفتكم؟ فدُلّ عليها، فقام وكشف رأسه وأومأ إلى الأرض بالخدمة، وهادنه السلطان خمسين سنة وسيّره إلى بلاده وسيّر معه عسكرًا أوصلوه إلى مأمنه وشيّعه السلطان مسافة فرسخ.
وأما الروم فإنهم لما بلغهم خبر الوقعة وأسر الملك وثب شخص اسمه ميخائيل على المملكة فملك البلاد، فلما وصل ملك الروم أرمانوس إلى قلعة «دوقيه» بلغه الخبر فأرسل إلى ميخائيل يعرفه ما تقرر مع السلطان وقال له: إن شئت أن تفعل ما استقر وإن شئت أمسكت، فوافق ميخائيل وجمع أرمانوس ما عنده من المال فكان مائتي ألف دينار فأرسله إلى السلطان ألب أرسلان مع طبق مُذهّب عليه جواهر بتسعين ألف دينار، وحلف له أنه لا يقدر على غير ذلك.
ووصل الخبر إلى كافة أقطار المسلمين ومدح الشعراء المسلمون السلطان ألب أرسلان، وذكروا هذا الفتح الكبير لأنه يشبه فتوحات الصحابة رضي اللّه عنهم.█