عن ابن اسحاق أنه قال: إن قريشًا حين عرفت أن أبا طالب أبى خذلان رسول الله ﷺ وتسليمهم إياه مشوا إليه ومعهم عمارة بن الوليد بن المغيرة فقالوا له: يا أبا طالب قد جئناك بفتى قريش عمارة ابن الوليد جمالًا وشبابًا فهو لك فاتخذه ولدًا وخلّ بيننا وبين ابن أخيك هذا الذي فارق دينك ودين آبائك وفرّق جماعة قومه، وأخبروه أنهم يريدون قتله! وزعموا أن ذلك أجمع للعشيرة وأفضل في عواقب الأمور. فقال لهم أبو طالب: والله ما أنصفتموني تعطوني ابنكم أغذوه لكم وأعطيكم ابن أخي تقتلونه هذا والله لا يكون أبدًا أفلا تعلمون أن الناقة إذا فقدت ولدها لم تحن إلى غيره؟ فقال له المطعم بن عدي بن نوفل بن عبد مناف: لقد أنصفك قومك يا أبا طالب وما أراك تريد أن تقبل ذلك منهم فقال أبو طالب للمطعم: والله ما أنصفتموني ولكنك أجمعت على خذلاني. فاصنع ما بدا لك.

عندها بدا أن الأمور تسير إلى الطريق المسدود، واتفق المشركون على مقاطعة بني هاشم.

بدء المقاطعة

ثم إن قريشًا مشوا إلى أبي طالب تارة أخرى فكلّموه وقالوا: «ما نحن يا أبا طالب وإن كنت فينا ذا منزلة بسنّك وشرفك وموضعك بتاركي ابن أخيك على هذا حتى نهلكه أو يكف عنا ما قد أظهر بيننا من شتم آلهتنا وسبّ آبائنا وعيب ديننا فإن شئت فاجمع لحربنا وإن شئت فدع فقد أعذرنا إليك وطلبنا التخلص من حربك وعداوتك فكل ما نظن أن ذلك مخلص فانظر في أمرك ثم اقض إلينا قضاءك»، فجاء أبو طالب وأخبر النبيّ ﷺ بما قالوه، فقال رسول الله ﷺ: «يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك في طلبه». فقال عمه أبو طالب: امض على أمرك وافعل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشىء أبدًا، رواه البيهقي.

وعن ابن اسحاق أنه قال: فلما مضى رسول الله ﷺ على الذي بُعث به وقامت بنو هاشم وبنو المطلب دونه وأبوا أن يسلّموه، وعرفت قريش أنه لا سبيل إلى محمّد ﷺ معهم اجتمعوا على أن يكتبوا فيما بينهم على بني هاشم وبني المطلب ألا يناكحوهم ولا ينكحوا إليهم ولا يبايعوهم ولا يبتاعوا منهم، فكتبوا صحيفة في ذلك وعلقوها بالكعبة ثم عدوا على من أسلم فأوثقوهم وآذوهم واشتد البلاء عليهم وعظمت الفتنة بالمسلمين وزلزلوا زلزالًا شديدًا.

ثم إن الله عزّ وجلّ برحمته أرسل على صحيفة قريش التي كتبوا فيها تظاهرهم على بني هاشم «الأرضة» فلم تدع فيها -على رواية ابن إسحاق- اسمًا هو للّه عزّ وجلّ إلا أكلته وبقي فيها الظلم والقطيعة والبهتان. فأخبر الله عزّ وجلّ رسوله ﷺ. فأخبر عمه أبا طالب فقال أبو طالب: يا ابن أخي من حدثك هذا؟ وليس يدخل إلينا أحد ولا تخرج أنت إلى أحد ولست في نفسي من أهل الكذب؟ فقال رسول الله ﷺ: «أخبرني ربّي هذا» فقال له عمه: إن ربّك لحق وأنا أشهد أنك صادق. فجمع أبو طالب رهطه ولم يخبرهم ما أخبره به
رسول الله ﷺ كراهية أن يفشوا ذلك الخبر فيبلغ المشركين فيحتالوا للصحيفة الخبث والمكر.

فانطلق أبو طالب برهطه حتى دخلوا المسجد والمشركون من قريش في ظلّ الكعبة فلما أبصروه تباشروا به وظنوا أن الحصر والبلاء حملهم على أن يدفعوا إليهم رسول الله ﷺ فيقتلوه، فلما انتهى إليهم أبو طالب ورهطه رحّبوا بهم وقالوا: قد آن لك أن تطيب نفسك عن قتل رجل في قتله صلاحكم وجماعتكم وفي حياته فرقتكم وفسادكم، فقال أبو طالب: قد جئتكم في أمر لعله يكون فيه صلاح وجماعة فاقبلوا ذلك منا هلموا صحيفتكم التي فيها تظاهركم علينا فجاؤوا بها.

قال أبو طالب: صحيفتكم بيني وبينكم وإن ابن أخي قد خبرني ولم يكذبني أن الله عزّ وجلّ قد بعث على صحيفتكم «الأرضة» فلم تدع للّه فيها اسمًا إلا أكلته وبقي فيها الظلم والقطيعة والبهتان، فإن كان كاذبًا فلكم عليّ أن أدفعه إليكم تقتلونه وإن كان صادقًا فهل ذلك ناهيكم عن تظاهركم علينا؟ فأخذ عليهم المواثيق وأخذوا عليه فلما نشروها فإذا هي كما قال رسول الله ﷺ فبهت كفار قريش ورُفع الحصار عن بني هاشم الذي دام ثلاث سنوات.