الحمد للّه ربّ العالمين، والصَّلاة والسَّلام على السَّيّد المكَرّم والنبيّ المعظم محمّد أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحابته الطيّبين الطاهرين.
اعلموا رحمكم اللّه بتوفيقه أن التَّوسُّل في الشرع هو طلب حصول منفعة أو اندفاع مضرة من اللّه عزّ وجلّ بذكر اسم نبيّ أو وَليّ إكرامًا للمتَوسَّل به، وهو طريقة ميمونة وسُنة حسنة حميدة كانت في الصحابة والسَّلف الصالح وتناقلها الخلف عن السلف وسار على منهاجها المستقيم وانتفع من ترياقها السليم مَنْ أسعَده اللّه تعالى في دنياه وآخرته، وهذه الطريقة المباركة تُوافق العقيدة والشريعة ولا غُبارَ عليها عند علماء الدين والشريعة، فاللّه تبارك وتعالى جعل أمورَ الدنيا قائمة على الأسباب والمسَبَّبَات مع أنه تبارك وتعالى قادر على أن يُعْطينا الثواب من غير أن نقومَ بالأعمال، قال اللّه تعالى:
﴿وَٱستَعِينُواْ بِٱلصَّبرِ وَٱلصَّلَوٰةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى ٱلخَٰشِعِينَ ٤٥﴾ سورة البقرة. وقال تبارك وتعالى:
﴿يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبتَغُواْ إِلَيهِ ٱلوَسِيلَةَ وَجَٰهِدُواْ فِي سَبِيلِهِۦ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ ٣٥﴾ سورة المائدة.
ومعنى ﴿وَٱبتَغُواْ إِلَيهِ ٱلوَسِيلَةَ﴾ أي كل شىء يُقربكم إلى اللّه اطلبوه، واللّه تبارك وتعالى جَعَل مِنَ الأسباب المُـعِينة لنا لتحقيق مطالب لنا التوسلَ بالأنبياء والأولياء في حال حياتهم وبعد مماتهم.
فنحن نتوسلُ ونسألُ اللّهَ تعالى بهم رَجَاء تحقيق مطالبنا، فنقول مثلًا: «اللّهمَّ إني أسألك بجاه رسول اللّه أو بحرمة رسولِ اللّه أنْ تَقْضيَ حاجتي وتُفرّجَ كُرْبتي، أو نقولُ: «اللّهمَّ بجاهِ وَليّك
عبد القادر الجيلاني أو وليّك أحمد الرفاعي الكبير رضي اللّه عنهما اقضِ حاجتي أو اشفِ مريضي…»، فإن ذلك إخوة الإيمان جائز في الشرع لا غُبار عليه ألبتَّة، وإنما حَرَّمَ ذلك نفاة التوسل والتبرك مُجَسّمة هذا العصر فشَذُّوا بذلك عن أهل السُّنة والجماعة الذين يُجيزون التوسل بالأنبياء والأولياء ضمن حدود الشرع التي بَيَّنها العلماء المعتبرون.
ولا عِبرة بعد ذلك بهؤلاء الغوغاء الذين شذوا عن جمهور الأمة وشَوَّشوا على أهل السنة بل وكَفَّروا ونَسَبوا الشرك إلى كل من تَوَسّل واستغاث بالأنبياء والأولياء أو قَصَدَ قبرَ الرسولِ الأعظم ﷺ أو قبر غيره من الأنبياء والأولياء للتبرك زاعمين أنّ هذا شرك وكفر وعبادة لغير اللّه، وهم أخزاهم اللّه لم يعرفوا معنى العبادة عند اللُّغَويين وهجموا على تكفير أهل السنة بغير حق إذ إن العبادة عند أهل الحق هي الطاعة مع الخضوع كما قال الزجّاج، وقال بعضهم: العبادة هي نهاية التذلل كما نقله الزَّبيدي، وقال غيرهم من أكابر اللُّغويين كالسُّبكي: العبادة هي أقصى غاية الخشوع والخضوع، ومن هذا التعريف لمعنى العبادة التي لا تكون إلا للّه سُبْحانه نعلمُ أنه ليس عبادةً لغير اللّه مجرّدُ النداء لحيّ أو مَيّتٍ ولا مُجرّدُ التعظيم لشخص ولا مُجرّدُ الاستغاثة بغير اللّه ولا مُجرَّدُ قَصْدِ قبر نبيّ أو وليّ للتبرك، ولا مُجَرّدُ الطلب من شخص ما لم تجر به العادة بين الناس، وَلَيْس عبادةً أيضًا مجردُ صيغة الاستعانة بغير اللّه تعالى، فهذا كله إخوة الإيمان ليس كفرًا وليس شِركًا كما يدعي نفاة التوسل والتبرك لأنه لا يَنْطبقُ عليه تعريف العبادة عند اللُّغويين كما أسلفنا، فافهم ذلك أخي المسلم واللّه يتولى هُداك.
ومِنْ هذا البيان الجليّ في تعريف العبادة عند أهل اللغة وكبار اللغويين نعلم أنّ هؤلاء الذين يُكفّرون شخصًا من أمّة محمّد لأنه قَصَدَ قبرَ الرسول الأعظم ﷺ أو قبورَ غيره من الأنبياء أو الأولياء للتبرك زاعمين أنَّ هذا شرك، قد خرجوا عن جادة الصواب وابتعدوا عنها بُعدَ الأرض من السماء، لأن من يقصد قبر النبيّ أو قبر الوليّ زائرًا للتبرك ولم يعظمه بذلك غاية التعظيم فمنْ أين يدخل الشرك على هذا الزائر!! سبحانك هذا بهتان عظيم..
التوَسُّلُ بالرسول الأعظم ﷺ في حياته
اعلم أخي المسلم رحمك اللّه بتوفيقه أن التوسل بالأنبياء والأولياء جائز شرعًا في حَالِ حضرتهم وفي حال غَيْبَتهم، في حياتهم وبعد موتهم، ومن الأدلة الشرعية التي ذكرها العلماء المعتبرون على جواز التوسل الحديث الذي رواه الإمام الطبراني وصحّحه والذي فيه أنَّ الرسولَ الأعظم ﷺ عَلَّمَ الأعمى الذي جاءه يشكو إليه ذهاب بصره أن يتوسل به ﷺ إلى اللّه عزّ وجلّ، وكان ممَّا عَلَّمه
رسولُ اللّه ﷺ لهذا الأعمى أن يقول: «اللّهمَّ إني أسألك وأتوجّه إليك بنبيّك محمّد نبيّ الرحمة يا محمّد إني أتوجّه بك إلى ربّي في حاجتي -ويُسمّي حاجته- لِتُقْضَى لي». فبهذا الحديث الشريف إخوة الإيمان بطل زَعْمُ هؤلاء نفاة التوسل والتبرك أنه لا يجوز التوسُّلُ إلا بالحيّ الحاضرِ لأنَّ هذا الأعمى لم يكن حاضرًا في مجلس الرسول ﷺ حين توسَّل بالنبيّ الأعظم ﷺ بدليل أن رَاوِيَ هذا الحديث الشريف، حديث التوسل وهو الصحابي عثمانُ بن حُنَيف رضي اللّه عنه قال لما رَوَى حديث الأعمى الذي جاء إلى الرسول ﷺ يشكو إليه ذهاب بصره: «فواللّهِ ما تفرَّقنا ولا طَالَ بنا المجلسُ حتى دخل علينا الرجلُ وقد أبصر» رواه الحافظ الطبراني وصَحَّحَه.
فهذه القصة إخوة الإيمان دليل ساطع على أن الأعمى توسل بالنبيّ الأعظم ﷺ في غير حضرته بدليل قول الصحابي عثمان بن حُنَيف رضي اللّه عنه: «حتى دخل علينا الرجل وقد أبصر». وفيها دليل نيّر سَاطِع على أن التوسل بالنبيّ ﷺ جائز في حالة حياته وبعد مماته بدليل أن الصحابي عثمان
ابن حُنَيف رضي اللّه عنه علّم صاحب الحاجة أن يتوسل بالنبيّ بعد وفاته ﷺ.
فبطل يا إخوتي بذلك قول ابن تيمية «بأنه لا يجوز التوسّل إلا بالحيّ الحاضر» اهــ. وهذه القاعدة التي ابتدعها ابن تيمية لم يَسْبِقه إليها أَحَد حتى من أسلافه المجسمة.
واعلموا رحمكم اللّه بتوفيقه أن نبيّنا محمّدًا ﷺ قيل في مَدْحه شِعْرٌ من الطويل ومن جملته:
وأبيضَ يُسْتَسْقَى الغمام بوجهـه
ثِمَالُ اليتامى عصمـــــــة للأرامل
وفي هذا الشِعْر مدح النبيّ الأعظم ﷺ بأنه أبيضُ، وأنه يُتوسَّل بذاته الشريفة إلى اللّه تعالى لِطَلَب المطر، وقد قيل هذا الشعْر الذي فيه أنه يُتوسّل بذاته الشريفة إلى اللّه تبارك وتعالى أمامه ﷺ ولم ينكره صلوات اللّه وسلامه عليه.
طريقة التوسُّلِ المَيْمُونَة عند الصحابة والسَّلف الصالح
اعلموا رحمكم اللّه بتوفيقه أن الصحابة الكرام والسلف الصالح والتابعين لهم بإحسان كانوا على طريقة الرسول الأعظم ﷺ في التبرك والتوسل والاستغاثة والاستعانة بالأنبياء والأولياء، وكذلك جواز مُناداتهم في حياتهم أو بعد موتهم، في حال حضرتهم أو في حال غَيْبَتهم وليس هذا عبادة لغير اللّه كما يقول نفاة التوسل والتبرك، فقد قامت الأدلة الشرعية على مشروعية التوسل بالذوات الصالحة كالأنبياء والأولياء، كما ورد في الحديث الشريف، وإنما منع ذلك نفاة التوسل والتبرك وزعموا أن ذلك شِركٌ وكُفرٌ وعبادة لغير اللّه، وزعموا أيضًا أن الاستغاثة بالأنبياء والأولياء في حياتهم وبعد موتهم شركٌ وعبادة لغير اللّه، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا.
واعلم أخي المسلم رحمك اللّه بتوفيقه أنه لا فرق بين التوسل والاستغاثة من حيث إن المسْتغيثَ بالنبيّ أو الوليّ إنما مُراده أن يخلق اللّه تبارك وتعالى له العون متخذًا ذكر النبيّ أو الوليّ سَببًا لذلك، ولهذا فالتوسل يُسَمَّى أيضًا استغاثة كما جاء في حديث البخاري أن النبيّ ﷺ قال: «إنَّ الشمس تدنو يوم القيامة حتى يبلُغَ العرقُ نصفَ الأذن فبينا هم كذلك استغاثوا بآدم ثم موسى ثم بمحمّد…» الحديث. وفي رواية لحديث الشفاعة العظمى التي تكون يوم القيامة لسيّدنا محمّد ﷺ، ورد أيضًا لفظُ الاستشفاع فدلّ ذلك على أنَّ الاستشفاع والاستغاثة بمعنى واحد كما بيَّن ذلك العلماء المعتبرون.
فالرسول المصطفى ﷺ سَمَّى هذا الطلب من آدم عليه السلام أن يَشفعَ لهم إلى ربّهم استغاثة، فكيف يَجرؤ بعد ذلك نفاةُ التوسل على منع الاستغاثة بالنبيّ الأعظم ﷺ بعد موته وكذلك الاستغاثة بغيره من الأنبياء والأولياء بل وعلى تكفير من استغاث بهم… سُبْحانك ربّي هذا بُهتان عظيم…
واعلموا إخوة الإيمان أن من الأدلة الشرعية على جواز الاستغاثة بالأنبياء والأولياء في حياتهم وبعد مماتهم أن الرسولَ الأعظم ﷺ في صلاة الاسْتِسقاء وطلب السُّقْيا والمطر من اللّه تعالى سَمَّى المطر مُغيثًا، فقال في دعائه: «اللّهمَّ اسْقِنا غيثًا مُغيثًا مَرِيئًا -أي خصيبًا- نافعًا غير ضارّ عاجلًا غير آجل» رواه أبو داود وغيره.
فالرسول الأعظم عليه الصلاة والسلام سَمَّى المطر مُغِيثًا لأنه يُنقِذُ من الشدّة بإذن اللّه تعالى مع أن المطَر لا رُوْح فيه ولا إرادة، فإذا جازَ وصْف المطر بأنه يُنقذُ ويُغيثُ بإذن اللّه تعالى جاز بالأَولى وَصْفُ الوليّ والرجل الصالح الذي جعل اللّه تعالى له تصرفـًا بعد الموت بالمنقذ والمغيث كذلك.
فعُلِم من ذلك جواز طلب العون من النبيّ والوليّ لأنهما يُنقذان من الشدة بإذن اللّه تعالى سواء كان ما يُطلب منهما ممّا جرت العادة أن يطلبَه الناس بعضهم من بعض أم لا، فافهم ذلك أخي المسلم واللّه يتولى هداك.
التوسُّلُ والتَّبَرُّكُ بقبور الصالحين عند السَّلَفِ الصالح
لقد كان التوسّل بالأنبياء والصَّالحين وزيارة قبورهم وخاصة قبر النبيّ المصطفى ﷺ للتبرك سُنة حميدة وطريقة مباركة مَيْمونة ومطلوبة سار عليها السلف الصالح، ولقد اتبعها الصحابة الكرام وتوارد عليها الخلف عن السلف واستمرّ ذلك إلى وقتنا هذا…
لقد تحدّث الرسول الأعظم ﷺ عن قبر نبيّ اللّه مُوسى عليه السلام وأشار في حديثه الشريف إلى طلب معرفة قبور الصالحين لزيارتها فقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه مسلم: «واللّهِ لو أني عندَه لأريتكم قبرَه إلى جانبِ الطريق عند الكثيب الأحمر» والذي هو قُربَ أريحا في فلسطين المحتلة، ففهم العلماء من هذا الحديث أن زيارة قبور الأنبياء والصالحين للتبرك مطلوبة شرعًا وعلى هذا كان أكابر العلماء وعلى ذلك نصّوا في كتبهم، وقد صرّح بذلك الإمام الكبير أبو الوفاء بن عَقيل الحنبليُّ الذي هو من أعمدة المذهب الحنبلي أنه ممَّا يُستحَبُّ قوله عند زيارة قبر
رسول اللّه ﷺ: «اللّهمَّ إنك قُلتَ في كتابك لنبيّك ﷺ: ﴿وَلَو أَنَّهُم إِذ ظَّلَمُواْ أَنفُسَهُم جَاءُوكَ فَٱستَغفَرُواْ ٱللَّهَ وَٱستَغفَرَ لَهُمُ ٱلرَّسُولُ لَوَجَدُواْ ٱللَّهَ تَوَّابا رَّحِيما ٦٤﴾ سورة النساء، وإنّي قد أتيتُ نبيَّك تائبًا مستغفرًا فأسألك أن تُوجب لي المغفرةَ كما أوجبتها لمن أتاه في حياته، اللّهم إنّي أتوجه إليك بنبيّك ﷺ نبيّ الرحمة يا رسول اللّه إني أتوجَّه بك إلى ربّي لتُغْفَرَ لي ذنوبي».
فبعد هذا كيف يقول بعضُ مدَّعي التديُّن إن زيارة قبر النبيّ للتبرك به والتوسّلِ به زيارة شركية… فما أبعدَ هؤلاءِ جفاة القلوب ونفاة التوسل والتبرك عن الحق.
ونختم مقالنا هذا بقول الإمام مالك ابن أنس رضي اللّه عنه للخليفة المنصور العباسي لما حجَّ فزارَ قبر النبيّ المصطفى عليه الصلاة والسلام وسأل الإمام مالكًا قائلًا له «يا أبا عبدِ اللّه أستقبل القِبلةَ وأدعو أم أستقبل رسولَ اللّه ﷺ؟ فقال له الإمام مالك رضي اللّه عنه: ولِمَ تَصرِفُ وجهك عنه وهو وسيلتُكَ ووسيلةُ أبيك آدم عليه السلام إلى اللّه تعالى»، ثم قال له: «بل استقبله واستشفع به فيُشَفّعه اللّه» ذكر هذه الحادثة القاضي عياض في كتابه «الشفا بتعريف حقوق المصطفى».