روى أبو داود وغيره عن أبي هريرة رضي اللّه عنه عن رسول اللّه ﷺ أنه قال: «إن اللّهَ يبعثُ لهذه الأمّةِ على رأسِ كلّ مائةِ سنةٍ من يُجدّد لها دينها». وهذا الحديث فيه إشارة إلى ما منَّ اللّه تعالى به على أهل الإسلام من الأئمة الهداة ومن سائر العلماء الأعلام والصالحين الذين جعل اللّه فيهم الأسرار وجدّد بهم الآثار وبيّن بهم طريق الحق وردع بهم أهل الزيغ والضلال. وقد ألّف السيوطي أرجوزة ذكر في أبياتها اللطيفة مجدّدي العصور، وفي باب «أعلام المسلمين» هذه السنة نتناول التعرّف على هؤلاء الذين قيل فيهم إنهم كانوا مُجدّدي قرونهم.
التعريف به
هو ابن دقيق العيد الإمام الفقيه المجتهد المحدث العلامة شيخ الإسلام تقي الدين أبو الفتح محمد بن علي بن وهب ابن مطيع القشيري المنفلوطي الصعيدي المالكي والشافعي صاحب التصانيف.
قال تاج الدين السبكي: ولم ندرك أحدًا من مشايخنا يختلف في أن ابن دقيق العيد هو العالم المبعوث على رأس السبعمائة المشار إليه في الحديث، وأنه أستاذ زمانه علمًا ودينًا.
ولد في البحر المالح وكان والده متوجهًا من «قوص» وهي بلدة في مصر، إلى مكة للحج في البحر فوُلد له الشيخ تقي الدين في يوم السبت الخامس والعشرين من شعبان سنة خمس وعشرين وستمائة، ثم أخذه والده على يده وطاف به بالكعبة وجعل يدعو اللّه أن يجعله عالـمًا عاملًا.
سمع الحديث من والده وأبي الحسن بن الجميزي الفقيه
وعبد العظيم المنذري الحافظ. ويحكى أنه قرأ على والده الحديث المسلسل يقول: وأنا دعوت فاستُجيب لي، فسئل ما الذي دعوت به فقال أن ينشئ اللّه ولدي محمدًا عالمًا عاملًا. فنشأ الشيخ «بقوص» -اسم بلدة- على أزكى قدم من العفاف والمواظبة على الاشتغال والتحرز في الأقوال والأفعال وكانت والدته بنت الشيخ المقترح ووالده الشيخ البركة مجد الدين فأصلاه كريمان.
تفقه «بقوص» على والده وكان والده مالكي المذهب ثم تفقه على شيخ الإسلام عز الدين بن عبد السلام فحقق المذهبين المالكي والشافعي.
كان له عدة أولاد ذكور بأسماء الصحابة العشرة المبشرين.
مصنفاته
من مصنفاته كتاب الإمام في الحديث وهو جليل حافل لم يصنف مثله. وكتاب الإلمام وشرحه ولم يكمل شرحه. وأملى شرحًا على عمدة عبد الغني المقدسي في الحديث وعلى العنوان في أصول الفقه. وله تصنيف في أصول الدين، وشرح مختصر ابن الحاجب في فقه المالكية ولم يكمله، وعلّق شرحًا على مختصر التبريزي في فقه الشافعية.
وولي قضاء القضاة على مذهب الشافعي بعد إباء شديد وعزل نفسه غير مرة ثم أُعيد. وكان حافظًا مكثرًا إلا أن الرواية عسرت عليه لقلة تحديثه فإنه كان شديد التحري في ذلك.
وكان إمامًا متفننًا محدثًا مجودًا فقيهًا مدققًا أصوليًّا أديبًا شاعرًا نحويًّا، ذكيًّا غوّاصًا على المعاني، مجتهدًا وافر العقل كثير السكينة، تام الورع شديد التدين، مديم السهر مكبًّا على المطالعة والجمع، قلّ أن ترى العيون مثله. وكان سمحًا جوادًا، وله في ذلك حكايات ووقائع كثيرة. تفقه بأبيه وبالشيخ
عز الدين بن عبد السلام، واشتهر اسمه في حياة مشايخه، وكان مالكيًّا ثم صار شافعيًّا.
روى عنه قاضي القضاة علاء الدين القونوي وقاضي القضاة علم الدين والحافظ قطب الدين الحلبي وطائفة سواهم، وتخرج به أئمة.
زهده
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رضي اللّه عنه: «قرأت بخط الشيخ الحافظ أبي الحسين ابن أيبك المصري سمعت الصاحب
شرف الدين محمد بن الصاحب زين الدين أحمد بن الصاحب
بهاء الدين رحمه اللّه تعالى قال: كان ابن دقيق العيد يقيم في منزلنا بمصر في غالب الأوقات فكنا نراه في الليل إما مصليًّا وإما يمشي في جوانب البيت وهو مفكر إلى طلوع الفجر فإذا طلع الفجر صلّى الصبح ثم اضطجع إلى الضحى».
وسمعت الشيخ الإمام شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي المالكي يقول: أقام الشيخ
تقي الدين أربعين سنة لا ينام الليل إلا أنه كان إذا صلّى الصبح اضطجع على جنبه إلى حيث يتضحى النهار.
قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رضي اللّه عنه: وكان في زمان الإمام ابن دقيق العيد شاعر اسمه محمد الشيباني النصيبي وكان ظريفًا لطيفًا خفيفًا له قدرة على ارتجال الحكاية المطولة والنادرة والشعر.. قال الكمال الأدفوي شعره يدخل في ثلاث مجلدات وكان رزقه منه يمدح الأعيان، وكان يقول: لما دخلت إلى «قوص» قال لي الشيخ ابن دقيق العيد أنت رجل فاضل، والسعيد من تموت سيئاته معه فلا تَهجُ أحدًا فلم أهجُ أحدًا.
قال الذهبي في ابن دقيق العيد: وكان من أذكياء زمانه واسع العلم كثير الكتب مديمًا للسهر مكبًّا على الاشتغال ساكنًا وقورًا ورعًا، قلّ أن ترى العيون مثله. سمعت من لفظه عشرين حديثًا وأملى علينا حديثًا، وله يد طولى في الأصول والمعقول وخبرة بعلل المنقول، وليَ قضاء الديار المصرية سنوات إلى أن مات.
قال الحافظ قطب الدين الحلبي: «كان الشيخ تقي الدين إمام أهل زمانه وممن فاق بالعلم والزهد على أقرانه عارفًا بالمذهبين إمامًا في الأصلين حافظًا متقنًا في الحديث وعلومه ويضرب به المثل في ذلك، وكان آية في الحفظ». رحمه اللّه رحمة واسعة ونفعنا به.