المشهد الأول:
كان ذلك يوم السبت، وكانت ذكرى المولد النبويّ الشريف قد اقتربت، وبدأ الناس بالتهافت على محال الثياب والقماش لشراء الثياب الجديدة فرحًا بهذه الذكرى المباركة، توجه أبو زياد بعد أن أقفل باب دكانه في السوق القديمة بعد صلاة المغرب وذهب إلى المنزل فالأسرة والأولاد والأحفاد بانتظاره لقراءة قصة المولد كما جرت العادة. في طريقه إلى البيت مرّ أبو زياد بدكان جاره وصديق طفولته أبي فادي، فوجد أنه لم يغلق الدكان بعد وفي الداخل يوجد زبونة مع ابنتها المراهقة، سلّم أبو زياد عليه ولم يرد أن يلهيه عن زبونته كما أنه كان مستعجلًا لكن أبا فادي لحق به وأصرّ أن يستبقيه على «كباية شاي أكرك عجم» فعزّ على أبي زياد أن يكسر بخاطر صديق الطفولة ووافق على عرض صاحبه. «دقائق وأنتهي مع السيّدة وأكون معك يا صديقي استرح هنا ريثما آتي فهناك الكثير من الأخبار» وبدأ أبو فادي بقياس أمتار القماش للزبونة وأبو زياد ينظر إليه. لاحظ أبو زياد أن أبا فادي لا يمد ذراعه مدًّا كاملًا كما جرت العادة مع كل تجار القماش إنما كان يثني ذراعه مما ينقص عشرة سنتميترات من كل ذراع، وبالتأكيد لم يدخل لسانه إلى فمه لإلهاء الزبونة كي لا تنتبه لما يجري. كانت هذه صدمة لأبي زياد فهو لم يعهد من صاحبه الغش في البيع. بعد انصراف الزبونة قال أبو زياد لصاحبه: «لم الغش يا صديقي؟! لم أعهد منك هذا أبدًا!» وهنا جاء جواب أبو فادي أشد صدمة من الموقف بحد ذاته «مشّينا!! زبونة محرزة ودفيعة!!» انتفض أبو زياد وغادر الدكان وهو يقول: «هذا فراق بيني وبينك»، كان ينبغي أن أحذّر الزبونة.
المشهد الثاني:
جلست سلمى عصر ذلك النهار الصيفي على شرفة منزلها الكائن في الحي العتيق منتظرة جارتها منى التي اعتادت الجلوس معها عصر كل يوم بعد الانتهاء من ترتيب المنزل وبانتظار الرجال للعودة من أعمالهم. تأخرت منى على غير عادتها وبعد مرور خمس وعشرين دقيقة دقّ جرس المنزل وكانت منى هي الطارقة. «أهلًا وسهلًا لماذا التأخير» «اسكتي اسكتي عرفت خبرًا وأنا في طريقي إليك، يا لطيف» صُدِمَتْ سلمى وقلقت من تعابير وجه منى، فقد بدت الأخيرة وكأنها تحمل خبر وفاة أو مرض إحداهن. جلست منى وطلبت من جارتها كوب ماء مثلج فالخبرية «طويلة يجفّ الحلق بحكايتها». «خير، خير، ما القصة شغلتِ بالي» استوت منى في جلستها وسحبت نفسًا طويلًا من الأركيلة وبدأت الكلام كمذيعة نشرة السابعة والنصف على القناة الأولى. «أنت تعلمين كم أنت عزيزة على قلبي ولو لم تكوني كذلك لما تكلمت معك بهذا الموضوع» بدأ الدم يغلي في عروق سلمى إذ أحست أن الموضوع يعنيها مباشرة. «لن أطيل عليك، أنت بالتأكيد تعرفين جارتنا أم محمّد وتعرفين ابنتها سمية، لقد علمت من سلفتها التي كانت صديقتي في الجامعة أن سمية كانت تخرج برفقة شاب معها في الجامعة وقد رآها أخوها ذلك اليوم في أحد المقاهي في وضع… أعوذ باللّه، أعوذ باللّه، اللّه يستر على بناتنا» ازداد غليان الدم في رأس سلمى لكن هذه المرة ليس بسبب الخبرية إنما بسبب ما ترتكبه جارتها من معاصي، فهي تغتاب أناسًا مسلمين، عندها استوقفتها وقالت: «اتقي اللّه يا منى، هذه غيبة!! » وهنا ردّت منى مع ضحكة مصطنعة «مشّينا!! خبرية عصرونية» انتفضت سلمى وقالت بصوت مرتجف من شدة الغضب «إذا كنت ستستمرين على هذا فأنت غير مرحب بك في منزلي». عاد سمير إلى منزله وكان معطفه مبللًا من شدة المطر الذي ينهمر في الخارج وتوجه فورًا إلى المطبخ ووضع كيسًا ورقيًّا ملفوفـًا بإحكام من فتحته وبدا أنه يحتوي على زجاجة أو قنينة أو شىء من هذا القبيل. ثم توجه إلى الثلاجة وأخذ قالب البلاستيك حيث يوضع الماء ليصير ثلجًا وملأه من الصنبور ثم أعاده إلى الثلاجة، مما أثار تعجب زوجته درة، فالدنيا في قلب العاصفة في الخارج وسمير يريد مكعبات ثلج. لم تعر الأمر اهتمامًا فهي كانت منشغلة مع ابنها في حفظ صفحة من كتاب التاريخ. انصرف سمير إلى مائدة الطعام وبدأ يأكل بنهم وكأنه لم ير أكلًا كهذا في حياته. مرّت نصف ساعة كان الولد قد أنهى درسه وصلّى العشاء ودخل إلى فراشه لينام. فذهبت درة وأخذت حمامًا دافئا وتوجهت إلى غرفة الجلوس لتمضية السهرة مع زوجها سمير. لكنها ظنت أنها تحلم عندما رأت المشهد في غرفة الجلوس. فالطاولة كانت مملوءة بأنواع المكسرات واللوز والكيس الورقي كان قد تكشف عن خباياه وبان المستور. قنينة الخمر تتوسط الطاولة وكأسٌ مليئة بالثلج بجانبها، ورجل لا تعرف ما دهاه ينظر إليها وابتسامة عريضة تملأ ثغره. «زغردي يا امرأة، جاءتنا زيادة الراتب» كان دماغ درة لا زال عاجزًا عن تحليل الموقف، وكأنها فقدت القدرة على النطق للحظات وبدأت تخرج منها الحروف مبعثرة وغير مفهومة «أنت.. أنت.. خمر… خمر حرام في بيتنا… ماذا حدث لك؟؟؟ أعوذ باللّه». «ماذا حدث لك» ردّ سمير بكل برودة أعصاب «أقول لك زاد المدير لي 200,000 ليرة على راتبي الشهري، وأنت تقولين ماذا حدث لك.. مشّينا!! هذا كأس نشربه ولن أصير مدمنًا بسببه». جاء وقع هذه الكلمات كالسكين في قلب درة، فهي التي حاربت ودافعت عن سمير كثيرًا بعد أن رفض أهلها الزواج به. «إما أن ترميها الآن وإلّا كلّمت أهلك بذلك وتصرّف أنت معهم».
يا أبا فادي ويا منى ويا سمير، ويا فلان ويا علان، ويا فلانة ويا علانة، ولأي شخص تسول له نفسه عمل شىء من هذه الأمور أو غيرها من المعاصي، لو كنت أمام النبيّ وفي حضرته وأمام أصحابه، هل كنت ستجرؤ على قول «مشّينا».
يا أبا فادي لو رآك سيّد الخلق محمّد ﷺ وقال لك: «من غشنا فليس منا» -رواه مسلم- فهل ستقول حينها «مشينا»؟ وأنت يا منى لو قرأ عليك النبيّ قول اللّه تعالى: ﴿ وَلا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَّحِيمٌ (12)﴾ سورة الحجرات، فهل ستقولين حينها: «خبرية عصرونية»؟ وأنت يا سمير هل كنت ستبحث عن التبرير لو قال لك النبيّ: «إن اللّهَ لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومبتاعها وساقيها ومستقيها» رواه أحمد.
حياتنا اليومية ومجتمعنا مليء بالكثير من المفاسد والكثير من المغريات والشهوات لكن عند مواجهة أي منها يبرز الإنسان البطل دون غيره فالبطل هو من قاوم شهوة نفسه واتقى اللّه في السرّ والعلانية.