حدث ذلك منذ ثلاثٍ وأربعين سنة تقريبًا. كانت الأحداث قد عصفت بوطننا الحبيب لبنان… لم يكن لدي شىءٌ مُلِحٌّ أفعله، كنت أسيرُ مع أحد أصدقائي، وكان الملل سِمَة هذه المرحلة حيثما وضعتنا أرجُلنا، كنا نحط رحالنا ضائعين تائهين وأحيانًا نجلس على قارعة الطريق غير عابئين بالمارة، وكنا نخرج كل يوم من الصباح حتى المساء، وهكذا قضينا معظم أوقاتنا. 

في أحد الأيام كنا نسير في محلة برج أبي حيدر حتى وصلنا إلى قرب مسجد «عبد الغني بيضون» الذي شُهِرَ باسم مسجد برج أبي حيدر فقال لي صديقي: مررتُ منذ يومين فوجدت شيخًا كبيرًا يجلس بقرب النافذة ما رأيك لو دخلنا إلى المسجد وتعرّفنا عليه؟ وافقته الرأي ودخلنا معًا بدافع الفضول، فوجدنا شيخًا يلبس القلنسوة والدشداشة البيضاء وكان يجلس وينظر من النافذة، فلما رآنا قام وسلّم علينا وقال: أهلًا وسهلًا بابتسامة ما فارقته، بدا لي طويلَ القامة أسمر المُحيا يفوح منه عطرٌ خفيف جميل.

جلسنا فبادرَنا بالسؤال بكل لطفٍ عن أسمائنا. أخبرناه.

كان يتكلم الفصحى بصوت متوسط ولكنه كان واضحًا لدينا… كان في غاية الأدب والتهذيب وكان مهتمًا بنا كثيرًا وكانت ابتسامته لا تغادره.

لقد كنت أنا وصديقي في هذه المرحلة نتردد على أُناسٍ من أهل الدنيا همهم جذب الشباب إلى ملذات الدنيا الفانية، وهم كانوا في غاية الخطورة وكنا نسير مع هذه القافلة التي مؤداها إلى الهاوية، ولم نكن ندري لجهلنا، ولا نعذر في هذا.

عزيزتي يومياتي….

سأخبرك بالمفاجئة التي حصلت خلال لقائنا مع هذا الشيخ…

فجأة تكلم هذا الشيخ محذرًا من تلك الفئات التي تعمل على إفساد الكثير من شباب اليوم وتطرق إلى الأعمال والأساليب والخداع الذي يمارسونه…

في الواقع كان يتكلم عن أولئك الناس الذين كنا نذهب إليهم وقد كان وصفهُ بغاية الدقة وكأنه كان معنا!!

ولكن لم أدرك أنا ذلك إلا بعد سنوات!!

انتهى كلام ذاك الشيخ ووقفنا نريد الذهاب فوقف وصافحنا.. وانتهى الأمرُ عند هذا الحد.

خرجنا، فقال لي صديقي: ما رأيك به؟ قلت له: إنَّه رجلٌ طيب ولطيف. بينما لم يعلق صديقي شيئًا.

بعد يومين كنت في منزل أهلي، ويومها لم يأتِ صديقي، خرجتُ أسيرُ في الطريق فوجدت نفسي قريبًا من مسجد «برج أبي حيدر».

شعرتُ بداخلي بإحساس لم أعرفه، اندفعت بحماس إلى دخول المسجد… فعلًا دخلت المسجد فوجدت شخصين، التفتُ ناحية النافذة فلم أجد الشيخ التفتُ نحو اليمين فلم أجده فسمعت صوته يأتي من جهة الشمال: أهلًا وسهلًا كيف حالك يا محمّد؟ اقتربت منه وسلمت عليه وقلت: الحمد للّه. جلسنا قرب النافذة فبدأ بالكلام وشرح لي معنى قول: لا إله إلا اللّه محمّدٌ رسول اللّه.

سررت جدًّا بشرحه وكنتُ أنظر إليه كثيرًا وأتمعّن بالنظر إليه كان في غاية التواضع والأدب.

استأذنته بالانصراف فأذِنَ لي وقال: أريدُ أن تأتي دائمًا… بأمان اللّه.

ليتني أستطيع وصف الذي انتابني في ذلك اليوم، كان شيئًا غريبًا شعرت به لأول مرة في حياتي…

سرت في الطريق، فجأة وقفتُ وسألت نفسي: ترى ما اسم هذا الشيخ؟! لم يخطر ببالي سؤاله عن اسمه!!

في نفس اليوم جاء صديقي لزيارتي فأخبرته بما حصل معي اليوم فلم يُعِرْني اهتمامًا، وطلبت منه الذهاب معي إلى المسجد فأخبرني أنه مشغول، وألحَّيتُ عليه فقال: فيما بعد أذهب.

ما عدتُ أذهب مع صديقي كما كنا نفعل، بل صرت أتردد كل يوم إلى المسجد، تعرّفت على أشخاص في المسجد وصرنا أصدقاء، فيما بعد علمت أنهم من تلامذة الشيخ، وعرفت من أصدقائي أنَّ الشيخ يدعى
عبد اللّه الهرري…

كانت الدروس الدينيّة يتوالى إعطاؤها من قبل الشيخ عبد اللّه كل يوم وكنا نشعر بسعادة بالغة، وكنا نؤدي الصلاة المفروضة جماعة ونصلي النوافل بفضل اللّه تعالى.

كان خادم المسجد، ويا لها من رتبة شرف هو الشيخ الجليل أحمد اسكندراني رحمه اللّه تعالى. كان حافظًا للقراءن الكريم طيبًا متواضعًا لدرجة كبيرة، كان إذا أراد أحدنا أن يقرأ عليه سورة من القرءان بادر وجلس واستمع له وصحّح له… خدم المسجد ثلاثين سنة بكل أمانة شرعية وكان برًّا بوالديه وكان يذهب إلى مقبرة الباشورة باستمرار لزيارتهما ويقرأ شيئًا من القرءان ويهب الثواب لهما ولأموات المسلمين رحمه اللّه تعالى…

كان الشيخ أحمد اسكندراني قد سأل اللّه تعالى أن يجمعه برجل صالح يكون رفيقه في المسجد فكان الشيخ عبد اللّه الهرري رحمه اللّه تعالى هو رفيقه!!

ما كتبتهُ شىءٌ يسير يسير ونزرٌ قليل لم أُرد، ولا أستطيع، بل أعجز عن الارتقاء إلى مقام من يكتب عن قيمة هذا العالم من المسلمين أو غيره، بل هذه رواية كيف يسّر اللّه لي أن أتعرّف على هذا العالم الجليل وأنال من الخير العميم بفضل اللّه…

كتبه محمد إمام