هل جزاء الإحسان إلا الإحسان… كلمات طيبة جدًّا… يحبّ الواحد منا أن يسمعها وأن يردّدها… وأن ينصح بها من يجده تاركًا لردّ المعروف بالمعروف… يذكرونها باللسان ويكتبونها في مؤلفاتهم… وتجد الكثيرين يسارعون لتقديم العون لأخ محتاج… البعض قد يقع في أزمة خانقة لا يستطيع الخروج منها  بسهولة…

يكون الواحد بحاجة لمن يحنو عليه ويعطيه بعض العطف والحنان… كلمات طيّبة قد تنقذ أحدهم أحيانًا من الضياع… من أخ له… شعر بوضعه… فسارع إلى التخفيف عنه بالنصيحة في موضعها وكان سببًا لخروجه من آلامه الكبيرة…

والبعض يعاني من ضائقة مالية… أحيانًا يجد يدًا ممدودة لمساعدته… بعض الناس يؤثرون غيرهم على أنفسهم… فتراهم يدفعون كل ما يملكون لإنقاذ أخ أو ابن أو صديق… وبعضهم يتنكر لذي الحاجة حتى لو كان أقرب الناس إليه… وبعضهم يجرح أباه أو أخاه أو صديقًا له لأنه لم يوفّر له كل ما يريد…

وسيم رجل بسيط طيب… يعمل سائقًا لسيارة أجرة… السيارة ليست ملكه…. استأجرها ويعمل عليها ويعطي قسمًا من الغلة لصاحب السيارة… تزوج من قريبة له وولدت له فتاة أسمياها منى… بعد سنتين من ولادة الطفلة… مرضت الأم مرضًا شديدًا… قام وسيم بإنفاق كل مدخراته على علاج زوجته… لكنها لم تصمد إلا لشهور قليلة ورحلت تاركة الطفلة الصغيرة ووالدها…

حزن وسيم كثيرًا على فراق زوجته… لكنه شكر اللّه على كل أحواله… كان يترك الصغيرة عند جارته حين يذهب للعمل… ويأخذها مساء ويعتني بطعامها وثيابها ويلاعبها حتى لا تشعر بفقدان أمها… وكبرت الصغيرة… وأدخلها والدها إلى مدرسة قريبة… ما زال يعمل على سيارة الأجرة… كان دخله قليلًا… لم يستطع أن يشتري لابنته كل ما تتمناه وتراه بين يدي زميلاتها… وكانت رفيقاتها يسخرن من ثيابها… يضحكن من شكل حذائها… ولم يكنَّ يتجاوبن معها حين تطلب أن تستعير منهن ما هي بحاجة إليه ولا تملكه…. كانت تبكي بحرقة من سخريتهن منها ومن ثيابها… تتألم لأنهن يعيّرنها بفقرها… فكرت كثيرًا بعدم العودة للمدرسة… لكن في النهاية كان طموحها أن تدرس وتنجح وتصل إلى مركز هام كي تبرهن لمن حولها أنها تستطيع أن تصل لما تتمنى رغم فقرها وفقر أبيها…

عادت منى إلى بيتها مساء تحمل حزنها وألمها… وانتظرت عودة أبيها… كان لديها الكثير من الطلبات…

قررت أن لا تسكت… ستصرح لوالدها بما تعاني من سخرية زميلاتها في الصف… ستقول له إنها بحاجة لكذا وكذا… وهو يدبر الأمر… أليس هو أباها.. من سيعينها في أمورها إن لم يساعدها والدها…

وجاء الوالد… كان متعبًا… يعمل لساعات طويلة في النهار حتى يؤمن أجرة السيارة وثمن الوقود ومصروف البيت… رأى وسيم ابنته ودموعها تسيل على وجنتيها… منى… حبيبتي… ما بك… ماذا أصابك… نسي كل تعبه وتألم لحزن وحيدته… وحكت منى لوالدها عن كل مشكلاتها… وطلبت منه أن يشتري لها ثيابًا جديدة… حذاء جديدًا… هاتفًا جديدًا… و… و…

صدم وسيم بكل طلباتها… قال لها نحن فقراء ونعيش على قدر مدخولي… صرخت في وجهه… عيّرته بفقره وقالت له: ليت عندي أبًا غيرك يستطيع أن ينفق عليّ ويحقق لي كل طلباتي ويمنع عني سخرية زميلاتي….

أنهكت كلمات منى أباها أكثر مما عاناه من العمل طوال النهار… جلس يبكي… وقال لنفسه… ابنتي التي أنفقت أيامي في رعايتها تفعل هذا بي… تصرخ في وجهي… تتمنى أن يكون لها أب غيري…

وفكر كيف يتصرف… ماذا يفعل… لو كان يستطيع أن يعمل ليلًا نهارًا ليكفيها لن يتأخر… لكنه كبر في العمر… من هم في عمره تركوا العمل… تقاعدوا… وانصرفوا للراحة من تعب السنين الماضية…

هو تزوج متأخرًا… كان قد تجاوز الأربعين حين تزوج من أم منى… لذا يجد نفسه متعبًا… لم يعد شابًّا… ليس لديه نفس نشاط الشباب في العمل… رغم هذا لم يقصر… ابنته غالية جدًّا عليه… ويتمنى أن يحقق لها كل آمالها… لكن… لم يكن يتوقع أن تواجهه ابنته بمثل هذا السلوك…

ومضى الليل… وفي الصباح ذهبت منى إلى مدرستها والوالد إلى سيارته… لم يذهب إلى العمل… قصد أحد زبائنه…كان يوصله أحيانًا إلى عمله… كان تاجرًا يعمل ببيع أجهزة كهربائية… طلب منه أن يبيعه هاتفًا بالدين… على أقساط… أراد أن يفاجئ به ابنته… البائع أعطاه الهاتف… رفض أخذ المال منه وقال له تدفع حين تتيسر أمورك…

حمل وسيم الهاتف فرحًا… ابنته ستكون مسرورة جدًّا حين ترى الهاتف… انتظر لوقت انصراف الطالبات من المدرسة… ولما رأى ابنته تخرج من باب المدرسة انطلق مسرعًا ليفرح ابنته بهديتها… لم ينتبه لسيارة كانت تمر مسرعة أمامه… صدمته السيارة… ووقع أرضًا يتخبط بدمائه… شاهدت منى كل شىء… ركضت مسرعة لترى والدها… رفعت رأسه عن الأرض… بكت حين شاهدت الدماء على وجهه… ابتسم لها.. رفع يده ليعطيها الهاتف… لم تتمالك منى نفسها… أبي قابل كل تصرفاتي السيئة بهدية كنت أتمناها… أما الآن فهي لا تريد شيئًا سوى سلامة والدها…

نكران المعروف أمر صعب… خاصة إن كان الإنكار جاء من ولد لوالده… أرزاق الناس لا تتساوى، بعضهم يكسب الكثير… وبعضهم لا يحصّل إلا القليل… وعلى كل الصبر وعدم الاعتراض على اللّه…

نحمد اللّه على كل أحوالنا… مهما كان نوع عملنا… ما دام في الحلال… ننوي العمل للّه تعالى حتى ننفق على من تجب علينا نفقته ونسأل اللّه التوفيق إلى كل خير…

تعافى وسيم من صدمة السيارة… لم تترك منى أباها… أمضت كل الوقت معه أثناء فترة علاجه…

عاد إلى عمله… وعادت إلى مدرستها… لم تعد تهتم بكلام زميلاتها… بل كانت تردد أمامهم دائمًا… أبي رجل عظيم… لن أنسى فضلك يا أبي….

كتبه الأستاذ إبراهيم صيداني