نحن نعيش في عصر العجائب والغرائب، ليس فقط لناحية تقنيّات غير معروفة من قبل، ولكن أيضًا لناحية سرعة تطوّرها. فمن سنوات ليست ببعيدة كان عصر التلفاز، ثمّ عصر الحاسوب، يليه عصر الإنترنت الذي تسبّب بظهور مصطلحات جديدة مثل «العولمة» و«القرية الكونيّة»…
ولكنّنا نعيش حاليًا في زمن عصر الشاشة الرقميّة والتفاعلية بدءًا من الهواتف إلى «التابلت» وحتّى الألواح التي بدأت تغزو الشركات والمدارس. فهذه الأجهزة أصبحت كالدمية في أيدي الصغار والأطفال قبل الكبار فصارت هي سلوتهم، وصاروا يتقنون استعمالها، وحلّت محلّ الألعاب التي كانت تلهو بها الأجيال السابقة. بل صار بإمكان الجيل الحالي تنزيل ما شاء من تلك الألعاب وغيرها إلكترونيًّا على الأجهزة. فنادرًا ما تخلو منها بيوت القادرين على دفع ثمنها، وحتّى من لم يكن قادرًا تجده إمّا يشتريها بالتقسيط أو يستدين لشرائها نقدًا.
لقد أصبح الطفل في كثير من البيوت أسيرَ هذه الشاشة، يجلس أمامها ساعات وساعات، يبقى نظره مشدودًا إليها، وأصابعه تساهم في الحروب الوهمية والمغامرات النظرية التي تشد عقله وبصره وتفكيره، وتسلب قلبه وتجعله أسيرًا للخوف والرعب والصور المتعاقبة لِما فيها من حِرفيّة وإبهار وجذب عبر الألوان والأحداث والشخصيّات.. كل هذا الانسجام بين الطفل والشاشة يُشْعِرنا بالقلق مما تسببه هذه الأفلام، وما تتركه من آثار في سلوك الطفل وتفكيره ومستقبله الدراسي. وهذه مشكلات استشعرها الباحثون في علوم السلوك والاجتماع والتربية فأجروا الأبحاث لاستقصاء وتحديد حقيقة المشكلة على أرض الواقع، ومدى تأثّر الأطفال بهذه الألعاب والتقنيّات، والخروج بتوصيات توجيهيّة على أمل الحدّ من الأخطار المحدقة بهذا الجيل.
تزيد الإحصاءات مؤخرًا مخاوف كثير من الباحثين والمهتمين بصحة الطفل النفسية إذ تظهر أنّ:
- 420 مليون مستخدم للإنترنت يُعَدّون من المدمنين «الذين يستخدمونه بشَراهة». وهذا العدد يعادل حوالي %6 من سكان العالم وهي نسبة تعادل 3 أضعاف مدمني ألعاب القمار. وتتفاوت هذه النسبة بتفاوت الأنحاء فتصل في البلدان العربية إلى %11 في حين لم تتجاوز %2.6 في دول شمال وغرب أوروبا -ذلك بحسب دراسة أجراها باحثون يابانيون بجامعة هونج كونج-. إلّا أنّ «الرابطة الأمريكية للطب النفسي» لا تدرج ألعاب الفيديو وإدمان التكنولوجيا في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية، لعدم وجود أدلة كافية على أنه اضطراب في العقل، ولكنّها أرقام مخيفة تستدعي الوقوف عندها ودراسة تأثيرها مع العلم أنّ كثيرًا من هؤلاء الأشخاص هم من الأطفال والشباب. فلا عجب أن يصبح كثير من الآباء اليوم في حيرة حول إدمان أبنائهم على الألعاب والأجهزة الرقمية، ونجد بالتالي أسبابًا دافعة إضافيّة لتتعدّد الأبحاث التي تحذر من أخطار قضاء الكثير من الوقت أمام الشاشات وبخاصة على الأطفال.
- الأطفال الذين يقضون معظم أوقات اليوم أمام الشاشات من المتوقع أن تتطور لديهم مجموعة من المشكلات مثل: اختلال انتظام أنماط النوم، المشكلات السلوكية، ضعف الأداء الدراسي. فالأشكال المرعبة مثلًا للشخصيات التي تتضمنها الألعاب الإلكترونيّة، والتي تَستعملُ القسوة والعنفَ في تحركاتها، تسبّب صدمات نَفْسية للطفل، وأمراضًا حقيقية من الخوف والرعب عند صغار السنّ ممن لا يميّزون بين الحقيقة والخيال، والذين يعمدون إلى تقليد الشخصيات في القتل والعنف في ألعابهم الحقيقية في حياتهم مع إخوتهم أو زملائهم في المدرسة. فهؤلاء الأطفال معرضون لأن يصبحوا عنيفين وفاقدي الاهتمام بالنشاطات الأخرى، وأن يتشكّل لديهم سلوك مُعادٍ للمجتمع ويفقدوا القدرة على التعامل برويّة. وقد بدأت بعض الدول مثل الصين وكوريا الجنوبية وتايوان بإنشاء مراكز علاجيّة من الإدمان على ألعاب الفيديو لدى الشباب، إلّا أنّه لا يوجد بعد مراكز متخصّصة لعلاج الأطفال وهذا الأمر الذي يضع الأهل في حيرة إذ لا يجدون من يلجؤون إليه للمساعدة المتخصّصة لحلّ تلك المشكلات.
- التعرّض للشاشات لأوقات طويلة يحفّز ويفاقم مشكلات صحيّة لدى هؤلاء الأطفال. مثلًا الأضواء الباهرة للشاشات قد تُسبّب تشنجات ونوبات صَرع فعلية لدى الأشخاص المصابين بالحساسية تجاه الضوء.
- الأطفال الذين يقضون أغلب وقتهم أمام الشاشة يكون من الصعب بالنسبة لهم التعبير عن أنفسهم والاعتراف بعواطفهم -بحسب دراسة أجرتها جامعة كاليفورنيا-. كذلك هم يعانون من الوحدة والانعزال. فهذه الأوقات الطويلة أمام شاشاتهم وفي عالم ألعابهم تبعدهم عن مشاركة الأسرة في أفراحها وأتراحها، فيميلون إلى العزلة والجلوس أمام الأجهزة ويقودهم ذلك إلى التراجع المدرسي، والإخفاق في إقامة شبكة علاقات اجتماعيّة ناجحة مع الأسرة والأصدقاء.
- الإفراط في استخدام التكنولوجيا يمكن أن يعيق نمو الطفل العقلي وبالتحديد القدرة على التنظيم الذاتي.
في خضمّ كلّ هذه النتائج غير المرغوبة خرجت الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال بتوصية في العام 2013 بمنع الأطفال الذين تقل أعمارهم عن سنتين من استخدام أو التعرُّض لأي وسائل إعلام إلكترونية على الإطلاق، وأوصت بالحد من وقت الجلوس أمام الشاشة للأطفال الأكبر سنًّا لتكون ساعة أو ساعتين في اليوم على الأكثر.
ولكن تعلّق دكتورة في علم السلوك على هذا الواقع قائلةً: إنّ مما يفاقم العلاجات أنّ بعض الأهل فقدوا القدرة على التعامل مع الملل لأنّهم ابتعدوا عن فن التواصل وجهًا لوجه وهذا الذي ضرّ كثيرًا من الأسر وقطع الكثير من العلاقات اليوم. لذلك هم رغم إدراكهم للمشكلة، يستمرّون في ملء أوقات أطفالهم بهذه الألعاب لأنّهم لا يجدون أشياء أخرى بسرعة تأثيرها. فيُعلّق بعض الباحثين بأنّه بدلًا من تقييد أطفالنا بعدد ساعات، ينبغي أن نفكر في ما نُغذي به عقولهم، ونطرح أمامهم خيارات مدروسة خلاف الأجهزة الرقمية. ويرون أنّ هؤلاء الآباء يشكّلون قدوة سيئة لأولادهم لأنّهم هم أيضًا يجلسون لأوقات طويلة أمام الشاشات ولا يولونهم اهتمامًا كافيًا. إنّهم يرون أنّ أهلهم ينشغلون بأجهزتهم أثناء الحديث معهم مما يجعلهم يشعرون بأنهم غير مهمين فيغرقون بدورهم في هذا العالم. لذا ترى دكتورة في علم السلوك أنّ الكثير من الآباء متواطئون في ما يصل إليه أبناؤهم من إدمان على تلك الأجهزة والألعاب، بسبب مناولتهم تلك الأجهزة في صغرهم من أجل الحفاظ على هدوئهم وإبقائهم تحت السيطرة.
يكمن إذًا الحل في أيدي الوالدين في تجنيب أولادهم الوصول لتلك المرحلة من المشكلات الناتجة عن الأجهزة والألعاب الإلكترونيّة… فليملؤوا أوقات أولادهم بعلم الدين وحفظ المتون الشرعية والقرءان الكريم وزيارة الأرحام وتعلّم العلوم النافعة والقيام بالنشاطات الرياضيّة… بدل التسبّب بالسوء ومن ثمّ البكاء من العجز عن معالجته.