الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على السيّد المكرّم المفخم محمّد أشرف الأنبياء والمرسلين وسيّد الأولين والآخرين، وعلى آله وصحابته الطيّبين الطاهرين.

التَّبركُ بالنبيّ المصطفى ﷺ وآثارِه المباركة، وبعباد اللّه الصالحين وأوليائه العارفين في حياتهم وبعد مماتهم طريقة مَيْمونة وخصلة مباركة حسنة كانت في الصحابة والسلف الصالح وتناقلها الخلف عن السلف، وقد سَلَكها واتّبعها وسار على منهاجها المستقيم مَنْ أَسْعَده اللّه تعالى في دنياه وآخرته… فطُوبى لمنْ سلكها وطرق أبوابَها، ويا فوزَ وسَعَادة وهناءةَ من عاش في أنوارها واستفادَ من عظيم بركاتها في حياته وبعد مماته…

واعلموا رحمكم اللّه بتوفيقه أن التَّبركَ معناه طلب زيادة الخير، وقد كان الصحابة الكرام رضوان اللّه عليهم يتبركون أي يطلبون الزيادة من الخير، بذات النبيّ المصطفى الشريفة ﷺ، ويتبركون بآثاره المباركة وما هو منه ﷺ كشعره الشريف وبما انفصل عنه كعرقه الطيّب الشريف وبما لَمَسهُ ولبسه وحَلَّ فيه ﷺ كقميصه وجُبَّته، بل ولا زال المسلمون بعدهم وإلى يومنا هذا في مشارق الأرض ومغاربها على هذه العادة الميمونة والسُّنّة النبوية المباركة يلتمسون دائمًا بشوق وشَغف زائدين التبرك بآثاره عليه الصلاة والسلام المنتشرة في الأصقاع البعيدة والبلاد العربية والإسلامية المختلفة والموجودة في أيدي أمينة موثوقة عند ثقات المسلمين.

مشروعية التبرك بآثار النّبيّ

واعلموا إخوة الإيمان رحمكم اللّه بتوفيقه أن الدليل على مشروعية التبرك بذات النبيّ الأعظم المكرم ﷺ وما هو منه كَشَعَره وأظفاره وعرقه وبصاقه، وكذلك التبرك بمواضع كَفّه وقدميه الشريفة، كل هذا يُؤخذ من فعل النبيّ الأعظم ﷺ وفعل الصحابة رضوان اللّه عليهم للتبرك وإقراره ﷺ لفعلهم هذا وثنائه عليهم وحَضّهم على فعله. فقد ثبت في الحديث الصحيح الذي أخرجه مسلم أنه ﷺ قَسَمَ شَعَره حين حَلَقَه في حجة الوداع بين أصحابه الكرام، ففي هذا الحديث الصحيح أنه ﷺ وَزَّعَ بنفسه بعضًا من شعره بين الناس الذين يلونه، وأعطى بعضًا من شَعَره الذي حَلَقَه للصَّحابي الجليل أبي طلحة الأنصاري رضي اللّه عنه ليوزعه في سائر الصحابة رضوان اللّه عليهم، وأعطى ﷺ بعضًا من هذا الشعر للصحابية الجليلة أم سُلَيم رضي اللّه عنها أم الصَّحابي الجليل أنس بن مالك رضي اللّه عنه، ففي هذا الفعل من الرسول عليه الصلاة والسلام دليل سَاطِعٌ على ثبوت وجواز التبرك بآثار النبيّ الأعظم ﷺ، فقد صَحَّ أنه ﷺ بَصَقَ في فِي -أي فم- الطفل المعتوه، وكان يعتريه الشيطان كل يوم مرتين وقال: «اخرجْ عدوَّ الله أنا
رسولُ الله
» رواه الحاكم.

أخي المسلم لقد قَسَم النبيّ الأعظم ﷺ شَعَرهُ بين أمّته ليتبركوا به ولِيَسْتشفعوا إلى اللّه عزّ وجلّ بما هو منه ﷺ أي ليطلبوا من اللّه تبارك وتعالى ببركة شعره ﷺ حُصُولَ مطلوبهم لما لآثاره ﷺ كَشَعره وأظافره من أسرار وبركات، وإن في التبرك أيضًا تَقرُّبًا بالعبادة للّه عزّ وجلّ لأن اللّه عزّ وجلّ يقول مخاطبًا عباده المؤمنين: ﴿يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ ٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱبتَغُواْ إِلَيهِ ٱلوَسِيلَةَ وَجَٰهِدُواْ فِي سَبِيلِهِۦ لَعَلَّكُم تُفلِحُونَ ٣٥ سورة المائدة، وأيّ وسيلة أعظم وأسمى من النبيّ الأعظم ﷺ سيّد العالمين، وسيّد العرب والعجم، فافهم ذلك أخي المسلم واللّه يتولّى هُداك.

تَبَركُ الصَّحابة والسَّلف الصالح بآثار النّبيّ

إخوة الإيمان لقد تبرّك الصحابة الكرام برسول اللّه ﷺ، وتبعهم في خصلتهم هذه المباركة والميمونة مَنْ أسْعَده اللّه تعالى، وتوارد ذلك وتناقله الخلف عن السلف بهمة عالية وشوق وهُيام عظيمين لنبيّهم الأعظم ﷺ…

وَهَاكم يا إخوتي في الدين نماذجَ وَوَقائعَ كثيرة شاهدة على أن السلف والخلف كانوا يتبركون بآثار نبيّهم عليه الصلاة والسلام في حياته وبعد مماته، فمن ذلك أنهم كانوا يغمسون شَعَره ﷺ في الماء فيسقون هذا الماء لمرضاهم تبركًا بأثر رسول اللّه عليه الصلاة والسلام فيُشفون بإذن اللّه.

وهذه جُبَّته الشريفة المباركة ﷺ التي كانت عند السيّدة عائشة وبعد وفاتها أخذتها أختها أسماء بنت أبي بكر رضي اللّه عنهم التي أخبرتْ أنهم كانوا يغسلونها للمرضى يَسْتَشْفون بها، رَوَى ذلك مسلم والإمام أحمد في مُسنده.

وعن الصحابية الجليلة أمّ سُلَيم رضي اللّه عنها أن النبيّ ﷺ قَالَ عندها -أي نام عندها القيلولة- فعَرقَ فقامت أم سليم إلى عرقه فنشفته فجعلَته في قارورة فرآها رسولُ اللّه ﷺ فسَأَلها عن ذلك، فقالت: أجعل عرقك في طيبي، رواه النسائي وغيره. فلم ينكر عليها ﷺ فعلها هذا، بل أقرّه واستحسنه ﷺ.

وها هو الصحابي الجليل خالد بن الوليد رضي اللّه عنه، كانت له قَلَنْسوة وَضَعَ في طَيّها شَعَرًا من ناصية رسول اللّه ﷺ أي مقدَّم رأسه لما حلق ﷺ شَعَره في عُمْرة الجِعْرانة، وهي أرض بعد مكة إلى جهة الطائف، فكان رضي اللّه عنه يَلبسُها يَتَبرّكُ بها في غزواته فيُرْزقُ بسببها النصر والفتح في المعارك.

وهذا دليل آخر على التبرك نأخذه من فعل سيّدنا أبي أيوب الأنصاري، فقد جاء هذا الصحابي الجليل ذات يومٍ إلى قبر
رسول اللّه ﷺ فوَضَع وَجْهَه على قبر النبيّ الأعظم ﷺ فعَلَ هذا رضي اللّه عنه تبركًا وشوقًا وحنينًا إلى الرسول ﷺ، فأقبل مروان بن الحكم أحد الوُلاَة الأمويين فوجَده واضعًا وجهه على القبر الشريف ولم يعرفه فقال مروان: أتدري ما تصنعُ؟ فأقبل عليه أبو أيوب رضي اللّه عنه وقال له: نعم جئتُ
رسولَ اللّهِ ﷺ ولم آتِ الحَجَر، ثم قال لمروان: سمعتُ رسولَ اللّه ﷺ يقول: «لا تبكوا على الدين إذا وَلِيَه أهله ولكن ابكوا عليه إذا وَلِيَه غيرُ أهله» رواه أحمد، أي أنتَ يا مروان لستَ أهلًا لتولي الإمارة والحكم.

وعن التابعي الجليل ثابت البُناني رضي اللّه عنه أنه قال: كنتُ إذا أتيتُ أَنَسًا -وكان أنس ابن مالك شيخه وأستاذه- يُخْبرُ بمكاني فأدخل عليه فآخُذُ بيديه فأقبّلُهما وأقول: بأبي هاتينِ اليدين اللتين مَسَّتا
رسولَ اللّه ﷺ، وأقبّل عينيه وأقول: بأبي هاتين العينين اللتين رأتا
رسول اللّه ﷺ، رواه أبو يعلى في مسنده.

واعلموا إخوة الإيمان رحمكم اللّه بتوفيقه أن الصحابة الكرام رضوان اللّه عليهم كانوا كلهم يحبّون نبيّهم صلوات اللّه وسلامه عليه ويُجلّونه وَيُعظمونه ويُسارعون إلى التبرك بآثاره الشريفة ﷺ، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه أنه قال: أتيتُ النبيّ ﷺ وهو في قُبّة حمراء من أَدَم -أي جلد- ورأيتُ بلالًا أخذ وَضُوء النبيّ ﷺ -أي ماء وضوئه ﷺ- والناس -أي الصحابة الكرام- يبتدرون الوَضُوء -أي يسارعون إلى ماء وضوئه ﷺ- فمن أصَابَ منه شيئًا تَمسَّح به ومَنْ لم يُصِبْ منه شيئًا أخَذَ من بَلَلَ يد صاحبه. وقد رَوَى ابن حبان هذا الخبر في تبرك الصحابة بآثاره الشريفة في صحيحه تحت باب «ذكر إباحة التبرك بوَضوء الصالحين مَنْ أهل العلم».

وعن حكيمة بنت أميمة عن أمّها أنها قالت: كان للنبيّ ﷺ قدح من عِيْدان يبول فيه ويضعه تحت سريره، فقام ﷺ ذات يوم فطلبه فلم يجده فسأل عليه الصلاة والسلام: «أين القَدَح»؟ قالوا: شربته برّة خَادم أم سَلَمة -أي خادمتها- التي قدمت معها من أرض الحبشة وهي لا تدري أنه بول بل ظنّته ماءً، فقال النبيّ ﷺ: «لقد احتظرتِ من النار بحظار» أي احتميتِ منها بحمى عظيم يَقِيكِ حرّها ويُؤمنك من دخول النار، رواه الطبراني.

وأما عن تبرك السّلف الصالح رضوان اللّه عليهم بمواضع مَسَّهَا النبيُّ الأعظم ﷺ بيده وكَفّهِ، فقد كان يُؤتَى بالرجل الوارم وجهه أو الشاة الوارم ضرعها  فيوضَعُ الكفُّ على الموضعِ الذي مسّه رسولُ اللّه ويقال: بسم اللّه فيُمْسَحُ وَجْهُ الرجلِ الوارم أو ضرع هذه الشاة الوارم ضرعها فيذهبُ الوَرَمُ بإذن اللّه تعالى ومشيئته، روى ذلك الإمام أحمد وغيره.

وها هو الإمام الجليل أحمد بن حنبل صاحب المذهب الحنبلي المشهور رضي اللّه عنه يَروِي عنه ابنه عبد اللّه بالإسناد المتصل فيقول رضي اللّه عنه: «رأيتُ أبي يأخذ شَعَرةً من شَعَر النبيّ ﷺ فيضعها على فِيه يُقبّلها وأحسب أني رأيته يضعها على عينيه ويغمسها في الماء ويَشربُهُ يَسْتشفي به ورأيته أخَذَ قَصعةَ النبيّ ﷺ -وهو الوعاء الذي كان النبيّ يأكل منه الطعام- فغسلها في جُبّ الماء أي الخابية التي يُجعل فيها أو في جُبّ الماء أي بئره ثم شرب فيها» رواه أبو نعيم في الحلية وغيره.

خاتمةُ المسك والأنوار 

إخوة الإيمان هذه هي قضية التبرك الميمونة بآثار النبيّ الأعظم ﷺ وبعباد اللّه الصّالحين وبأوليائه العارفين، وكذلك زيارة قبورهم للتبرك بهم لنيل زيادة الخيرات والبركات والسّعادات، وقد فعلها الصحابة في حياة نبيّهم عليه الصلاة والسلام وبعد مماته، وتبعهم في هذه الخصلة المباركة والطريقة الميمونة مَنْ أَسْعَدَهُ اللّه تعالى وتوارد ذلك وتناقله الخلف عن السلف بهمة عالية شوقًا وحَنينًا إلى نبيّهم المصطفى ﷺ، وقد وَجَدتَ أخي القارئ رحمك اللّه بتوفيقه الأدلة السَّاطعة على جواز ومشروعية التبرك في طيّات وصفحات هذا المقال، ولا يفوتنا في خاتمة هذا المقال أن نتلمّس الدليل النيّر من القرءان الكريم على مشروعية وَجَواز التبرك حيث بَيَّن لنا اللّه تبارك وتعالى في القرءان الكريم أن نبيَّ اللّه يوسف عليه السلام أَعْطَى قميصه الشريف المبارك لإخوته ليذهبوا به إلى أبيه يعقوب عليه السلام ويُلقوه على وجهه فيعود له بصره بعد هذا العمى الذي أصابه بسبب كثرة حُزْنه على فراق ابنه يوسف عليه السلام، قال اللّه تعالى حكايةً عن نبيّه يوسف عليه السلام:
﴿ٱذهَبُواْ بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلقُوهُ عَلَىٰ وَجهِ أَبِي يَأتِ بَصِيراسورة يوسف/93. ولم يَطُل الانتظار حتى جاء البشيرُ وهو يهوذا ابن
نبيّ اللّه يعقوب عليه السلام فبشَّره بلقاء يوسف عليه السلام، ثم ألقى هذا البشير قميص
نبيّ اللّه يوسف عليه السلام على وجه أبيه يعقوب عليه السلام فعاد بإذن اللّه ومشيئته مُبصرًا بعينيه كما كان سابقًا بعدما كان ضريرًا. 

قال اللّه تعالى: ﴿فَلَمَّا أَن جَاءَ ٱلبَشِيرُ أَلقَىٰهُ عَلَىٰ وَجهِهِۦ فَٱرتَدَّ بَصِيرا الآية سورة يوسف/96.فهذا يا أخي القارئ دليل سَاطِعٌ وحجةٌ باهرة من القرءان الكريم على جواز التبرك بالأنبياء والصالحين وبآثارهم الشريفة وعلى مشروعيته كما بيّنه وذكره العلماء الأفاضل، ولا يُلتفتُ بعد كل هذه الأدلة الباهرة وأقوال العلماء المعتبرين إلى دَعْوى هؤلاء الغوغاء، نفاة التبرك ومُنكريه، والغريب إخوة الإيمان أن مَنْ ينكر قضية التبرك بالآثار النبوية الشريفة منهم مَنْ ينتسبُ إلى المذهب الحنبلي المشهور، مع أن عبد اللّه ابن الإمام الجليل أحمد بن حنبل رضي اللّه عنه، صاحب المذهب في كتاب العلل ومعرفة الرجال وهو كتاب للإمام أحمد قال: سألته يعني أباه رضي اللّه عنه عن الرجل يَمَسُّ منبَرَ النبيّ ﷺ ويتبرك بمسّه ويقبّله ويفعل بالقبر مثل ذلك أو نحو هذا يريد بذلك التقرب إلى اللّه عزّ وجلّ، فقال -أي الإمام أحمد-: لا بأس بذلك.

وقد وردت روايات كثيرة عن الإمام أحمد وغيره من أئمة الشريعة الأعلام في التبرك بآثار النبيّ ﷺ والأولياء الصالحين وزيارة قبورهم للتبرك والدعاء عندها، وما أكثر هذه الروايات التي وردت في كتب العلماء…

وما أجمل أن نختمَ مَقَالنا هذا بهذه الأبيات من أرجوزة لأحد الأدباء الأفاضل يُبيّنُ فيها جواز ومَشْروعية التبرك، وبيان زيف وغباوة وجهالة من أنكره ونفاه.