غالب الناس يسعون للأفضل سواء في عملهم أو في أسرهم أو في مجتمعهم، لكن كلّما كان الاحتكاك مع الناس أكثر كان السعي للأفضل أكبر، ويسعى له الجميع بشكل أكثر، بسبب النزعة الموجودة عند معظم الناس للنرجسية، أي أن ينظر الناس إليهم كمثال وقدوة، وأن يكون كل ما يفعلونه «مطابق للمواصفات» السلوكية والذوقية.
من هنا كان مصطلح «الإتيكيت»
والإتيكيت مصطلح يعني «حُسن التعامل مع الناس، ويعني أيضًا الآداب الاجتماعية والآداب السلوكية واللباقة وفن التصرف في المواقف»، كما يعني أيضًا «الآداب العامة في التعامل مع الأشياء، ومرجعيتها هي الثقافة الإنسانية الشاملة التي قلما تختلف من بلد إلى آخر». باختصار فإن الإتيكيت هو حسن التصرف في المواقف المختلفة مع الناس وأمام الناس.
لكن لبّ الموضوع ليس هنا، لبّ الموضوع هو من سنّ هذه العادات والتقاليد وما هو مصدرها ومن الشخص الذي وضع هذه الأنظمة. ترى هل فكرنا في يوم من الأيام من الذي أجبرنا على وضع السكينة والشوكة والملعقة بهذه الطريقة؟ هل فكرنا لماذا علينا حمل الكوب بطريقة معينة بدل طريقة أخرى؟ لا أدري من وضع هذه القوانين ولا أريد أن أعلم، فاليوم لن أقول لكم إتيكيتكم ولي إتيكيتي، بل سأقول هناك شخص عظيم علّم البشرية كيفية التصرف وحُسْن التعامل مع الأشخاص سواء كانوا أقرباء أو معارف أو حتى غرباء، رجل علّم الناس الحضارة، وألقى بالجهل والتخلف في غياهب التاريخ، رجل تعلّمنا من أحاديثه كيف تكون النظافة الجسدية والروحية، تعلّمنا من سيرته كيف نأكل وكيف نشرب وكيف ننام وكيف نجتمع بالناس، تعلّمنا من أخباره كيف نتعامل مع النساء، وكيف نتعامل مع الأسرة، رجل علّمنا كيف نصافح وكيف تكون التحية، رجل لن تصل مجلدات الإتيكيت ومؤلفاتها إلى عشر معشار أخلاقه، ذلك هو محمّد بن عبد اللّه، ذلك هو سيّد الخلق، ذلك هو من حمدت خصاله.
حدّثوني عن إتيكيتكم ما شئتم فلن تصلوا إلى أخلاق سيّد المرسلين عندما قال: «تبسّمك في وجه أخيك صدقة» رواه ابن حبان، قالوا الكثير عن الابتسامة وألفوا المؤلفات عن الوجه البشوش وتأثيره على المجتمع لكن سيّدنا محمّد علّمنا إياه منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، ليس حسن الأخلاق ما نكتسبه بالابتسامة فحسب، بل إن نوينا للّه نكسب الأجر إن تبسّمنا في وجه إخواننا المسلمين.
حدثوني عن إتيكيتكم ما شئتم فلن تبلغوا ما أخبر به سيّدنا أنس رضي اللّه عنه حين قال: «خدمت النبيّ ﷺ عشر سنين، فواللّه ما قال لي أف قط، ولا قال لشىء صنعتُه: لِمَ صنعتَ كذا، وهلّا صنعتَ كذا وكذا». ولربما لو طبّق العالم أجمع هذا الكلام لما احتجنا إلى ما يسمى جماعة حقوق الإنسان أو حقوق العاملات الأجنبيات.
حدثوني عن إتيكيتكم ودراساتكم في علم السلوك وعلوم الاجتماع ما شئتم، فلن تصلوا إلى قول سيّد البشر «الكلمة الطيبة صدقة» رواه البخاري. ندرس في جامعاتنا ومجتمعاتنا عن أصول التكلم والتعامل بيننا وبين من هم أعلى مرتبة منا أو أدنى مرتبة، وكيف علينا التكلم بلباقة مهما كانت الظروف، لكن سيّدنا محمّد اختصر هذه العلوم والأصول بكلمة، «الكلمة الطيبة صدقة» كم وكم من المشكلات الاجتماعية والمهنية والأسرية لم تكن لتوجد لو كانت الكلمة الحسنة أساس تعاملنا وتحسين الظن من مرتكزات تصرفاتنا.
حدثوني عن إتيكيتكم ما شئتم، فلن تبلغوا معشار ما علّمنا إياه رسول اللّه ﷺ، فعن عائشة رضي اللّه عنها قالت: ما كان رسول اللّه ﷺ يسرد سردكم هذا، ولكنه كان يتكلم بكلام بيّن، فصل، يحفظه من جلس إليه، وعن أنس رضي اللّه عنه أنه قال: كان رسول اللّه ﷺ يُعيد الكلمة ثلاثًا لتُعقَل عنه.
وضعتم أسسًا وآدابًا للأكل وإتيكيتًا جعلتم من لا يتبعه متخلّفًا، لكن يكفينا قول
رسول اللّه ﷺ: «أمّا أنا فلا آكل متكئًا» رواه الترمذي.
الصلاة والسلام عليك يا سيّدي يا رسول اللّه، علّمتنا الحضارة، علّمتنا كيف نمشي، وكيف نأكل، وكيف ننام، وكيف نقيم العزاء والفرح، وكيف نكون مع أهلنا، ومع مدرائنا، ومع أساتذتنا، وفي مجتمعنا، فجزاك اللّه عنا خير ما جزى نبيًّا من أنبيائه. في ذكرى ميلادك يا سيّدي نشكو إليك وهننا وضعفنا نشكو إليك فعل الأمم فينا ونشكو إليك بعدنا عن الأخلاق والآداب التي علّمتنا إيّاها. لعل هذه الذكرى تكون منبهًا لأمّة نامت واستغرقت في النوم لعقود طويلة، لعلنا من خلال سيرتك ننتبه لأنفسنا ونستدرك حالتنا المزرية التي وصلنا إليها من دناءة الأخلاق وسفاهة الكلام، لعلنا في هذه الأيام ننسى إتيكيتهم ونتبع سنّتك يا خير خلق اللّه، والسلام.