يقول البعض: «التعليم هو إتقان فنّ التواصل». فمنذ بدأت جدليات التعايش بين المعلّم والتلاميذ بالظهور ونحن نسمع بقصص محزنة عن بعض المدرّسين الذين تركوا المهنة لأنّهم لم يكونوا مُهيّئين لمواجهة واقع الحال كما هو. فإما أنّهم كانوا يبحثون عن مهنة أيًّا كانت لأجل الحاجة إلى المال، وإمّا أنّهم كانوا يعيشون في وهمٍ بعيدٍ عن الواقع، وهو الذي يُظهره بعض الاختصاصات الجامعيّة ممّا لا يتلاءم مع الحقيقة على الأرض في كلّ المجتمعات. وليس ذلك إلّا نتيجة نسخ المناهج من دول أخرى، واستقدام أبحاث أُجريت في إطارٍ آخر بعيدٍ كلّ البعد عن بلد هؤلاء المعلّمين، ليروا بعد مزاولتهم للمهنة أنّ ما تعلّموه لا ينطبق بأغلبه على ما يواجهونه من مشكلات وذلك لأسباب مختلفة لسنا في معرض التطرّق لها الآن. فيُحبط البعض ويترك المهنة نهائيًّا حتّى وصل الأمر ببعضهم لدخول الجامعة من جديد ودراسة اختصاص آخر، ويتأقلم البعض الآخر ممّن عنده موهبة في فنّ التواصل أو ممّن تيسّر له من يُتابعه ويرشده في حسن التواصل وإدارة الصفّ وتجنّب النزاعات الصفّيّة مع الطلّاب والتي تبدأ عادة بعبارات معيّنة مستفزّة، إمّا صادرة من تلاميذ محدّدين، عن قصد أو عن غير قصد، وإمّا صادرة من الأستاذ، وتستفزّ هؤلاء التلاميذ نفسهم، والذين يصبحون نتيجة ذلك موسومين في أنحاء المدرسة بشهرة «أصحاب المشكلات السلوكيّة». فكيف تنشأ هذه النزاعات وكيف تتطوّر؟ وما هي مفاتيح التواصل لتفاديها ومعالجتها وبالتالي لإتقان مهارة أساسيّة من مهارات ضبط الصفّ؟
فتيل النزاع
– «أخرجوا دفاتركم»، يقول الأستاذ.
– «ليس عندي دفتر»، يجيب أحد الطلّاب.
– «لماذا»؟، يسأل الأستاذ.
– «لأنّه غالي الثمن»، يجيب جار الطالب الأوّل.
– …..
ويحتدم النقاش ليصل إلى حدّ استدعاء أهل الطالب أو تدخّل الناظر أو إخراج الطالب من الصفّ، أو غيرها من السيناريوهات التي تضيّع الحصّة التعليميّة وتتسبّب بتوتّر أجواء التواصل طيلة الحصّة وأحيانًا طيلة الحصص لتطبع علاقة هذا الأستاذ بهذا الصفّ جملةً بكونها مبنيّة على الاستفزاز المتبادل. فيعاني الجميع طيلة السنة الدراسيّة.
وكثيرة هي العبارات المتداولة والتي قد تكون فتيلًا لنزاعٍ لأنّها مُستفزّة ومُولّدة أحيانًا لرغبة لدى الآخر بإطلاق إجابات أوتوماتيكيّة، ونذكر منها:
عبارات يقولها طلّاب: «لم أفعل كذا»، «لست أنا»، «لم أكن أتكلّم»، «العام الماضي، مع الأستاذ x كنّا نفعل كذا أو كنّا نعمل بالطريقة الفلانيّة، أو كان يعمل معنا كذا…»، «لدينا كمّ كبير من الوظائف»، «ماذا يفيدنا هذا الدرس في الحياة؟»، «هل ما نفعله -أو ما سنفعله أو الوظيفة…- سيكون مقوّمًا بعلامات؟ -أو سيُحسب بمعدّل العلامات؟-»، «لم أكتب الوظيفة لأنّني لم أفهم شيئًا».
لا شكّ أنّ أغلب الأساتذة واجهوا هذه العبارات أو بعضها في حياتهم المهنيّة، إلّا أنّ البعض يصمد تجاه هذه الاستفزازات ويحسن الردّ والتعامل معها والبعض الآخر ينجرّ إلى النزاع. وأظنّ أنّ بعضهم ممّن يقرأ، يبتسم الآن لأنّها ترسم أمامه سيناريو معيّن حصل معه في الصفّ، أو كاد أن يحصل لولا استدراكه للمشكلة.
صحيح أنّ هذه العبارات وشبيهاتها مستفزّة ولكنّ الباحثين في مجال التربية قسّموها إلى نوعين:
- نوع يخفي في باطنه حاجة لدى الطلّاب، مثل الحاجة إلى أن يكون الدرس أوضح، أو الحاجة إلى الراحة… وهي بالرغم من أنّ أسلوب الطلب يحتاج إلى المعالجة، تكون أخفّ وطأة من النوع الثاني.
- نوع مُتعمّد في استدراج الأستاذ إلى النزاع لأسباب متعدّدة، ومنها: «أنا أدفع للمدرسة لأحصل على ذلك -أو لأفهم ذلك، أو لتعيد الشرح-»، «أنت لا تقوّم بطريقة مناسبة»…
غالبًا في النوع الثاني يكون التلميذ راغبًا في إضاعة الوقت فعلى الأستاذ في الدرجة الأولى أن لا ينجرّ لذلك عن طريق جدالٍ منفعل غير مجدٍ في أغلب الأحيان.
الدوافع لانجرار الأستاذ
ما الذي يدفع الأستاذ إلى الانجرار إلى النزاع؟ كثيرة هي الأسباب فقد يُستفز البعض نتيجة هذه العبارات غير اللائقة بدل من التروّي في معالجة الوضع، منهم بسبب عدم الخبرة ومنهم بسبب عدم تحليل الدوافع لهذا السلوك، ومنهم بسبب شخصيّة انفعاليّة… مع لفت الانتباه أنّنا لا نشجّع على هذه الأفعال بقولنا أنّه يُطلب تحليل الدوافع ولكنّنا فقط نقصد أنّ فهم الدوافع تساعد في المعالجة وفي اختيار الإجراء المناسب الذي يساعد في التخفيف من تكرار هكذا حالات لاحقًا.
إضافة إلى الأسباب التي سبق أن ذكرناها، تُشكّل الحياة اليوميّة للأستاذ ضغطًا كبيرًا عليه، فعمله سواءً في المدرسة أو في البيت يستهلك الكثير من طاقته بالإضافة إلى كونه يرتكز على أعمالٍ روتينيّةٍ ومتكرّرةٍ قد تسبّب الملل. فهذا الواقع قد يؤدّي لنشوء ردّات فعل مبالغٍ فيها بسبب كلّ هذا التراكمات، لذا معرفة هذه العبارات مسبقًا قد تساعد في تفادي الوقوع في فخّها في حالات الإرهاق مثلًا، لأنّ معرفة الشىء على حقيقته أحيانًا تساهم في تجنّب الوقوع فيه والانجرار إلى عواقب غير مرغوب بها. ولكن بعد معرفة هذه العبارات كيف الوسيلة لتحليلها وتوقّع دوافعها وبالتالي العمل على سبُل معالجة المشكلة؟
تحليل هذه النزاعات
تقدّم نظريّة «التحليل التفاعلي» توزيعًا للأدوار يكاد ينطبق على كلّ حالات النزاع. إذ يقول صاحب هذه النظريّة إنه يوجد خلال النزاع ثلاثة أدوار رئيسة: دور الجلّاد، دور المجلود، ودور المنقذ. فالتلميذ في كثير من الأمثلة التي سبق وذكرناها يأخذ دور الجلاد فإذا تفاقم النزاع قد تنقلب الأدوار ليأخذ الأستاذ هذا الدور إذا ما أراد تهشيم هذا الطالب… وهنا المأزق أحيانًا إذ يكون الطالب وصل إلى هدفه باستجرارٍ تلقائيٍ لغيره من الطلّاب للعب دور المنقذ له. فتنقلب بذلك المشكلة من فرديّة إلى جماعيّة الأمر الذي يعقّد طرق العثور على حلول ويصعّب الوضع على الأستاذ.
إذا عرف الأستاذ هذه الأدوار انتبه أن لا ينجرّ لأخذ دور الجلّاد ولا لأن يكون المجلود فكيف ينهي الاستفزاز إذًا ويمنع من تحوّله لنزاعٍ عقيم؟
يكمل صاحب نظريّة «التحليل التفاعلي» في نفس الإطار باقتراحه على الأستاذ أن يتصرّف بشكلٍ يعدّل فيه الأدوار. فبدلًا من الانجرار للأدوار العقيمة المذكورة خلال النزاع ينبغي على الأستاذ تحويل التفاعل ليصبح بين ثلاثة أدوار تتلخّص بـ: تقديم المساعدة، وضع الأنظمة المناسبة وتحميل المسؤوليّة، وكلّ ذلك في إطار حرصه على عدم تحويل الحادثة إلى جماعيّة مشهودة من كل الطلّاب. فيمكنه مثلًا أن يعلّق بصرامة أنّ التصرّف غير لائق بشكل يشعر بأهميّة الالتزام بالأدب، مع الطلب من الطالب المعني بلقائه في وقت كذا من الفرصة وفي مكان كذا من المدرسة، حيث تتمّ مناقشة المشكلة بحسب الأدوار السابق ذكرها.
خلاصة المعالجة
يمكننا تلخيص ما مضى بنصح الأستاذ بعدم التسرّع في ردّة الفعل فتتفاقم المشكلة، بالإضافة إلى أنّه يمكنه إجراء مجالس صفّيّة بنّاءة مع زملائه تكون شبيهة بورش العمل، بغية المساعدة في التصرف المناسب في هكذا حالات، وتكون المراحل في هذه المجالس على الشكل التالي:
1) إعداد دليل -ولو لم يكن مكتوبًا- لعبارات متداولة لدى بعض طلّابه، قد تشكّل فتيل نزاعات.
2) سرد بعض قصص النزاعات من قبل الأساتذة التي حصلت معهم -مع الانتباه لعدم ذكر الأسماء أو الوقوع في الغيبة- لتشكّل حالات لدراستها وتحليلها وفق الأدوار التي سبق أن ذكرناها: كأن يُصار إلى تصنيف أنّ هذا التصرّف أو هذا القول جعل فلانًا يأخذ دور الجلّاد الأمر الذي سبّب تمادي فلان آخر بلعب دور المجلود واستجرار عطف زملائه…
3) تقديم اقتراحات حلول ومناقشتها بناءً على الأدوار المبنية على تقديم المساعدة، ووضع الأنظمة المناسبة وتحميل المسؤوليّة، والتي تُجنّب الوقوع في النزاعات.
هذا لأنّ التفكير جماعةً يكون أحيانًا سبيلًا للعثور على حلول لم تكن بالحسبان على الصعيد الفردي ممّا يحسّن أداء الكلّ. فتصبح ردّات الفعل لدى الأستاذ بحيث يُشعر الطلّاب أنّ الأستاذ لا يهدف إلى جلدهم بل إلى زرع الأدب وحسن التربية والمسؤوليّة فيهم، وهذا يساهم كثيرًا في ترك الطلّاب شيئًا فشيئًا للسلوك الاستفزازي…