تقوى اللّه أمر عظيم، فهي طريق النجاح والفلاح، وسبب للتوفيق وينبوع الخير والصلاح، والتقوى في تعريف الشرع هي أداء الواجبات وترك المحرمات، ومن ضمن المحرّمات الواجب تركها الفساد بكل أنواعه المالي والاجتماعي والسياسي.
فالنسيج الاجتماعي المترابط القائم على الحقّ والعدل والصدق دعامة من دعائم الاستقرار في المجتمع الإسلامي، وركيزة من ركائز نموّه وازدهاره. والمنظومة الاجتماعية الصادقة في المجتمعات قاعدة كبرى في إرساء حضارتها وبناء أمجاد الخير. والفساد بكل أنواعه يُحدث خللًا اجتماعيًّا في أي أمّة، وهو نذير خطر يهدّد كيانها لما يُحدثه من شروخ في بنائها الحضاري ونظامها الاجتماعي.
فقد كثر المال الحرام بين الناس، وانتشرت الرشوة والربا، وكثر عقوق الوالدين، وتعدَّدت أسباب الانحراف والجريمة من شرب الخمر وتعاطي المخدرات وكثرة القتل، وضَعُف تواصل الأرحام وذوي القربى، وأسندت تربية الأطفال للخدم والسائقين من أهل الدّنيا، وضعفت أواصر المودّة والأخوّة في كثير من المجتمعات، مما أفرز أجيالًا جديدة، قِلّة منهم متمسكون بالعروة الوثقى، وأكثرهم مُلطّخ بالفساد والآثام بعد انزلاقهم في مهاوي الرذيلة، إما بسبب المال أو النساء أو كليهما معًا فلا حول ولا قوة إلا باللّه.
ويعود كل هذا إلى قتامة في الصورة وخلل في التفكير وضياع ميزان الشرع عند الكثيرين، فترَكُوا التوكل على اللّه، وتسابقُوا في جمع المال من غير تبيان مصدره أحلال هو أم حرام؟ والخلل في الموازين، وسوء الفهم عند الكثيرين لأصول الأحكام ومقاصد الشريعة، والخوف من المستقبل، والتسابق على المناصب، والتعلق بالوظائف، كلُّ هذا زعزع التوكل على اللّه عند كثيرين، فالرضى بقضائه وقدره أصلٌ مُهمّ من أصول الدين الحنيف، ولو اقتنع الإنسان أنه لن يأخذ أكثر مما قسمه اللّه له، لما رأينا هذا التسابق على جمع المال وخَزْنهُ عند كثير من الناس سواء كان حلالًا أم حرامًا.
ما هو دور المال؟
للمال شأن كبير في حياتنا، فهو إما نِعْمة وإما نِقْمة، فالمال كالسلاح إما يُستعمل لإقامة العدل والحق، وإما يكون وسيلة للظلم والبغي والعدوان. أما كيف نحقق دور المال المفيد في المجتمعات؟ فهو بمنع المُترفين والمُستَكبِرين من التحكّم بمصادره بغير حق حتى لا ينشروا الفساد في الأرض، وقد بعث اللّه الرسل ليقاوموا هؤلاء المفسدين.
صحيح أن المال زينة الحياة الدنيا، ولكن علينا أن نؤمن بأن ما عند اللّه خير وأبقى. قال تعالى:
﴿ الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا ٤٦﴾ سورة الكهف، فالمنهج القرءاني يحضّنا على مواجهة الفساد المالي، ابتداءً من مخالفة هوى النفس في حُب المال والتعلق الشديد به، وانتهاءً بتحذير المُترَفين والمفسِدين في الأرض بالحكمة والموعظة الحسنة، فبالصدقات وحَقّ الزكاة يشارك الفقير الغني في شىء من ماله ويساعد الغني الفقير فيخفف عنه، فالزكاة حقّ الفقير في مال الغني. قال اللّه تعالى مخاطبًا نبيّه: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ١٠٣﴾ سورة التوبة.
وعلينا إذا ملكنا المال أن ننفقه كما أمرنا الحق سبحانه وتعالى، فلا ندعه يُلهينا عن طاعة اللّه عزّ وجلّ، فقد نهانا اللّه عن ذلك، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9)﴾ سورة المنافقون، والاغترار بالمال والانشغال به بأمور الدنيا وترك أمور الآخرة وعدم صرفه في ما يرضي اللّه تبارك وتعالى هي صفات مذمومة، قال تعالى:
﴿ وَأَنفِقُوا مِن مَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصَّالِحِينَ (10)﴾ سورة المنافقون.
وعلينا ألا نغترّ بأصحاب الثروات، ونرى فيهم قدوتنا، بل ننظر إلى الصالحين أهل التقوى، ونسعى أن نكون منهم، ولنا في قصة قارون عبرة جلية. فقد خرج على قومه في كامل زينته، فاستهوى أصحاب النفوس الضعيفة، فتمنوا أن يؤتوا مثله، وكانت عاقبة قارون الخسف، وعُقبى المعجبين به الندامة. قال اللّه تعالى: ﴿ فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ ءامَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ 81﴾ سورة القصص.
فمعيار الفوز بالآخرة ليس المال بل التقوى، ومنها تقوى اللّه عن العلو والفساد والإفساد. قال تعالى: ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83)﴾ سورة القصص.
وهكذا يتّضح لنا أن المال رزق يهبنا اللّه إياه، وسنُسأل عنه يوم القيامة، عن مصدره هل هو حلال أو حرام؟ وكيف أنفقناه، وهل أطعنا اللّه فيه أو عصيناه.