الحمد للّه ربّ العالمين، له النعمة وله الفضل وله الثناء الحسن، صلوات الله البرّ الرحيم، والملائكة المقرّبين، على سيّدنا محمّد أشرف المرسلين، وخاتم النّبيين، وحبيب ربّ العالمين، وعلى آله وصحبه الطيّبين الطاهرين، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وسلام الله عليهم أجمعين، أما بعد فيقول الله تعالى في القرءان الكريم: ﴿ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا ١١٤ سورة طه.

في هذه الآية دليل من أعظم الأدلة على شرف العلم وعظمته، إذ لم يؤمر النّبيّ ﷺ في القرءان الكريم أن يسأل ربّه تعالى الزيادة إلا منه، وقد قال تعالى أيضًا: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ سورة الزمر/9، أي لا استواء بينهم، فالعالم لا يستوي مع الجاهل وفي الآية استفهام إنكار بمعنى النفي، وهذا مدح للعلم، وذم للجهل، فالعلم دليل النجاة، أما الجهل فيقود صاحبه إلى المهالك والموبقات، وقال تعالى أيضًا: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ سورة المجادلة/11.

فقوله عزّ وجلّ: ﴿ يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ ءامَنُوا مِنكُمْ أي بطاعتهم للّه جلّ وعزّ ولرسوله الأكرم سيّدنا محمّد ﷺ، وقوله: ﴿ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ أي ويرفع الله تعالى العلماء منهم خاصة درجات، بما جمعوا من العلم والعمل، وقال تعالى أيضًا: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ سورة فاطر/28. والمراد العلماء به تبارك وتعالى، أي الذين علموه بصفاته فعظّموه حقَّ تعظيمه، ومن ازداد علمًا ازداد خوفًا وخشيةً من الله ربّ العالمين، ولذلك فقد خصَّ النّبيّ ﷺ نفسه بأنه أعلم الناس بربّه عزّ وجلّ، فقال: «والله إني لأعلمكم باللّه عزّ وجلّ وأخشاكم له» رواه أحمد من حديث عائشة رضي الله عنها.

فلننظر بقلب حاضر، وعقل نيّر إلى هذه الآيات العظيمة كم حوت من معان رائعة وراقية تحثّ على تعلّم علم الدين، الذي هو حياة الإسلام، ودليل السعادة في الدارين، ومن أغفله فهو ضائع تائه، يميل مع كل ريح، ويتبع كل ناعق، فنحن مأمورون بالعلم والعمل، فالعمل وحده من غير علم لا يكفي، لأن الذي لا يتعلّم علم الدين يريد أن يصلح فيفسد، لأنه لا يميّز بين ما يضرّه وما ينفعه، فلا يضمن صحّة صلاته، ولا يضمن صحّة صومه، ولا صحّة أي عمل يريد أن يقوم به من الأعمال التي أوجبها الله تعالى علينا، بل قد يخرج من الملة ولا يدري ويظنّ بنفسه أنه لا زال مسلمًا، فالجاهل عدوّ نفسه وهو إما فاسق أو خارج عن الملّة، فإن سلم له إيمانه فهو لتركه تعلّم ما يجب عليه تعلّمه فاسق، وإلا فقد يجرّه الجهل إلى مفارقة الحنيفية فيخسر دنياه وأخراه، وكذلك العلم وحده من غير عمل لا يكفي، وإنما الناجي من تعلّم وعمل بما علِم، وقد ورد في الأثر عن سيّدنا عيسى المسيح عليه الصلاة والسلام: من تعلَّم وعلَّم وعمل بما علم يُدعى عظيمًا في ملكوت السماء.

وقد أمرنا الله تبارك وتعالى أن نَقيَ أنفسنا وأهلنا نار جهنم فقال عزّ وجلّ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءامَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ الآيةَ، سورة التحريم/6.

فإن سأل سائل: كيف تكون الوقاية من النار؟

فالجواب ما رُوِيَ عن سيّدنا علي رضي الله عنه أنه قال في تفسير هذه الآية: «أي علّموا أنفسكم وأهليكم الخير. أي علم الدين».

وقال التّابعي الجليل عطاء بن أبي رباح: «أن تتعلّم كيف تصلي، وكيف تصوم، وكيف تبيع وتشتري، وكيف تنكح وكيف تطلّق».

وخلاصة القول أنه يجب على المسلم أن يتعلّم ما يحتاجه من أمور الدين، ليعرف كيف يصحّح اعتقاده وعباداته، ليكون مَرضيًا عند الله تعالى، فقد قال رسول الله ﷺ: «اطلبوا العلمَ ولو بالصين فإنَّ طلبَ العلمِ فريضةٌ على كلّ مسلم» رواه البزّار.

فلو لم يكن من يُعلّم هذا العلم إلا في الصين لوجب علينا أن نرحل في طلبه إلى الصين، فكيف والعلم بيننا وفي ديارنا وبلادنا، فلماذا التقصير، ولماذا التواني والكسل إذًا؟ ونحن مسؤولون يوم القيامة فلنتقِ الله جميعًا، ولينظر أحدنا ماذا يقدّم لقبره وآخرته. وفي هذا البيان لا يسعنا سوى أن ننبّه أنّ السبيل الصحيح لتحصيل العلم هو التلقي من صدور الرجال لا مجرّد المطالعة، فالجاهل إذا اعتمد على المطالعة فقط دون التلقي من أهل المعرفة هلك. وقد قال ربُّنا تعالى في القرءان الكريم: ﴿ يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا الآية، سورة البقرة/26.

ومعنى ﴿ يُضِلُّ بِهِ أي بالتأويل الفاسد، فيقرأ ويرجع إلى رأيه في تفسير كلام الله فيضلّ، وإذا كان هذا الحال بالنسبة لمن خاض في كتاب الله دون الرجوع إلى أهل العلم العارفين بمعاني الآيات، واستخراج الأحكام، فما بالك بمن يعتمد على مجرد النظر في كتب العلم، فيفهم خلاف الصواب فإنه يهلك مع الهالكين.

وقد أرشدنا النّبيّ ﷺ إلى الطريق الأمثل لطلب العلم فقال: «يا أيُّها النّاس إنّما العلمُ بالتعلُّم والفقهُ بالتفقّه ومَن يردِ اللهُ به خيرًا يُفقّهه في الدين» رواه الطبراني.

فالعلم إذن بالتعلم أي بالتلقّي من أفواه أهل العلم، وعلى هذا دَرَج الصحابة ومَن بعدهم مِن السلف الصالح، ثم مَن تبعهم بإحسان إلى يومنا هذا، وقد سافر الصحابيّ الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنه من المدينة المنورة إلى مصر ليسمع حديثًا مِن فم مَن سمعه مِن النّبيّ ﷺ لا ليسمع شيئًا يجهله بل ليسمع ممّن سمع من رسول الله ﷺ بلا واسطة بينه وبين النّبيّ عليه الصلاة والسلام فقط.

ثم إنّ الذي يقرأ في كتب أهل العلم يجد فيها حدّثنا فلان وأخبرنا فلان وأنبأنا فلان، وهذا معناه أنهم أخذوا العلم بالتلقي، وسعوا إلى تحصيله وتحمّلوا في طلبه وصبروا حتى بلّغهم الله المراتب العالية، فرحل الشافعي إلى المدينة المنورة ليأخذ من الإمام مالك، وتنقّل الأوزاعي بين الشام واليمن والحجاز والبصرة لتحصيل العلم وارتحل عبد الله بن المبارك فأكثر من الشيوخ بل روي عنه أنه قال عن نفسه: «حملت عن أربعة آلاف شيخ»، فما الذي حرّك هؤلاء الأكابر وأيقظ الهمم فيهم؟ أليس الحرص على سلامة دينهم ودنياهم من شر الشياطين ومكر الماكرين. بلى؟  

فإنّ علم الدين سلاح يدافع به المؤمن شياطين الجن والإنس ويدافع به هواه ويميّز به بين ما ينفعه في الآخرة وبين ما يضرّه وبين العمل المرضي للّه وبين العمل الذي يسخط الله تعالى على فاعله ويشهد لذلك أيضًا حديث أبي ذرّ رضي الله عنه الذي رواه ابن ماجه وفيه أن رسول الله ﷺ قال: «يا أبا ذر لأن تغدو فتتعلّم آية من كتابِ الله خيرٌ لك من أن تصلّي مائة ركعة ولأن تغدو فتتعلّم بابًا من العلمِ خيرٌ لك من أن تصلّي ألف ركعة» أي من النوافل، فهذا يدلّ على فضل تحصيل العلم وعظيم ثوابه، وكم هو جدير بنا في هذه الأيام أن نسعى لطلب العلم الصافي النقي، بعيدًا عن كدَرِ المشوشين، الذين شوَّهوا الدين باسم الدين، ودسُّوا السُمّ في الدسم، فنفر من نفر وأعرض من أعرض، ولكننا نقول: من عرف الحق عرف أهله، ولا يُعرف الحق بالرجال ولكن الرجال يُعرفون بالحق.

فطوبى لمن أرضى ربَّه وحصّن بالعلم نفسه، فإنما العلماء ورثة الأنبياء، وأختم بنصيحة مهمة وهي قول التابعي الجليل محمّد بن سيرين رضي الله عنه: «إنَّ هذا العلم دين فانظروا عمَّن تأخذون دينكم» رواه مسلم في مقدمة صحيحه وكفى بها نصيحة لأولي الألباب والحمد للّه ربّ العالمين.