إليكم هذه القصّة التي تحكي لكم ما الكائن بعد النفس الأخير عبر مقالات نُسجت من خيال الكاتب تروي لنا حادثة وفاة الدكتورة حياة…
أن تفتح عينيك للحياة من جديد بعد رُقاد دام عشرين يومًا على سرير أبيض في غرفةٍ جُدْرانها باردة لا تجدُ أنيسًا ولا وَنيسًا سوى تلك الآلات الملتصقة بيديك وأنفك وصدرك –التي جُلّ عملها أن تُبْقِيَكَ في هذه الغرفة الكئيبة– صدّقوني إنه لَشعورٌ يستدعي الضحك! أجل الضحك!
تقول الدكتورة حياة:
فهل أنا تلك المرأة الحديدية التي أَفْنَتْ جُلَّ عمرها في تنظيم هذه المستشفى –التي أنا ملقاة على إحدى أسرّتها– والتي بذلت أقصى جهدها لتطوير أقسامها والتعاقد مع أهم الأطباء والعمل على فتح أقسام جديدة بآلات متطورة تُوَازي مستشفيات الغرب! هل أنا تلك الطبيبة التي لا تنفكّ عن السفر لحضور المؤتمرات والاطّلاع على أحدث الأجهزة في الشرق الأوسط التي قد تكون سببًا مباشرًا في التخفيف من الألم، الألم الذي يُعاني منه كل مريض عندنا، والذي أُعاني منه أنا أيضًا!
وها هو الباب الذهبي لغرفتي يُفتح لتدخل منه: «نَادْيَا» حقًّا إنها ناديا ومَن تلك التي بجانبها؟ لا أدري –المهم الحمد للّه أنني لم أفقد ذاكرتي بعد– فمن كان يصدّق أنّ ناديا التي دخلت هذه المستشفى منذ اثنين وعشرين عامًا والتي أشرفتُ على تعليمها حقن الإبر تُشرِف هي بدورها على حقني بالإبر طوال هذه المدة على ما أظن، والحمد للّه أن أتت متابعتي لها طوال هذه السنوات بفائدة، فها هي تفرغ المحلول الدوائي وتحقنه بأوردتي التي باتت زرقاء ضيّقة وتسحب الإبرة وكأن شيئًا لم يكن، الحمد للّه!
من كان يظن أن كل هذا يحصل لي، أزمة قلبية حادة ثم إجراء لعملية صعبة في سنّي هذا ثمّ غيبوبة لمدة عشرين يومًا، بكل صراحة أنا التي ما كنتُ أتوقع كلّ هذا فإنني من المداوِمات على الرياضة كل صباح ومن المتّبعات لنظام وحمية يناسبان جسدي كما أنني آخذ أدويتي بانتظام.
لكنّ فراق من تعتبره كالروح لك يفعل كل هذا وأكثر بل وأبعد! فلم يكن الدكتور كمال مجرّد زوج جمعني معه بيت واحد بل كان تلك النافذة المطلّة على الحياة التي ما إن تُغْلق حتى تنغلق معها أبواب كثيرة ومن أهمها بابُ حياتي أنا.
ولكن الحمد للّه على كل حال فها هو كل مُرّ يمرّ وها أنا أستيقظ من جديد حتى أُتابع مسيرة زوجي التي لن أَمَلَّ من مواصلتها، الحمد للّه!
توت توت توت، ما كل هذا الضجيج؟! لماذا أحسّ بضيق في التنفس؟ ماذا يحصل لناديا إنها تركض، وها هو الدكتور رامي يدخل ووجهه شاحب أصفر، حينها أغمضتُ عينيّ تلقائيًّا، لا أدري لماذا، ربما لأنني لا أَودّ أن أرى في عيون تلاميذي نظرة شفقة أو حزن عليّ لما أنا فيه، ولكنني بقيتُ مستيقظةً لأسمع وأفهم كل ما يجري من حولي، ولكنني لم أسمع شيئًا، فقد كان صوتهما منخفضًا.
وبعدما زادت ناديا المحلول الدوائي في المصل، زال ذلك الضيق عن صدري وأحسستُ بالاسترخاء نوعًا ما، فكل أدوية ضيق التنفس يدخلها شىء من المهدّئات وحينها استسلمت للنوم.
وعندما استيقظت وجدتُ ابنتي تُمسكُ بكلتا يديَّ وعيناها مُغرورقتان بالدموع، لم أتحمل هذا الوضع فضغطتُ على يديها لتعلمَ أنني أُحِسُّ بما تفعله ولكن مع ذلك لم يؤثر فيها ذلك شيئًا، وبدأتْ شيئًا فشيئًا تجهش بالبكاء فاقترب منها زوجها وبدأ يخفّف عنها.
ازدحمَتِ الأفكار في رأسي وبِتُّ أُحدّث نفسي: ألهذه الدرجة ساءَتْ حالتي، وحينها دخل وفدٌ من الأطباء وطلب من الجميع مغادرة الغرفة، وأغلق الباب.
الممرضة الجديدة ناريمان تقول:
نعم أُغْلِقَ الباب لكنني بقيتُ أنا وناديا داخل الغرفة مع الوفد وهم يتباحثون بالحالة التي آلت إليها الدكتورة حياة، بينما كنت أنا ناريمان الممرضة الجديدة التي لم تتعرّف عليها الدكتورة حياة كنت منشغلة بها بتفاصيل وجهها الشاحب الذابل بعينيها الشاخصتين باتجاه معين بارتجاف شفتيها ببرودة يديها بالآلات التي برأيي كانت أكثر إزعاجًا لها من كلام أولئك المجتمعين حولها على الرغم من انخفاض صوت تلك الآلات.
كنت متأثرة بها حقًّا متأثرة إلى درجة بعيدة ربما لأنني كنت جديدة ربما لأنني كنت أرى علامات مفارقة الحياة لأول مرة!
ثم يرتفع ذلك الصوت من جديد توت توت توت يهرع الكل إليها وتبدأ ناديا بسؤالي عما حدث باعتباري كنت قريبة منها إلا أنني لم أنطق ببنت شفة… كنت مصدومة لهول ما يحصل، الكلّ مجتمعون حولها يحاولون إنقاذها ومعرفة ما يجري لكنني كنت أرى أن ما يخافون وقوعه وقع بالفعل إنها تموت.
ويتقدم الدكتور رامي ليسعفها بالآلات الكهربائية ولكنَّ محاولاته باءت بالفشل فكان كلّما يصعقها بتلك الآلات التي ما إن مسّ جسدها حتى تبرز عيناها جاحظتين منتفختين تحكيان معاني الألم الذي تشعر به، ذلك الألم المترافق مع آلام سكرات الموت.
لم يكن ذلك بالأمر الهيّن لكليهما الدكتور رامي والدكتورة حياة فعلى الرغم من أني كنت أحدّث نفسي وأقول: ليت الدكتور رامي يشفق عليها ويتركها تموت بسلام، إلا أن الواقع كان مختلفًا تمامًا فكيف له أن يمنع نفسه من محاولة إنقاذ أستاذته التي رافقته سِنِي النجاح كيف له أن لا يفعل شيئًا يعيدها إليه كما كانت، وكيف للدكتورة حياة وهي الملقاة على فراش الموت أن تشرح له أنَّ تركها في لحظاتها الأخيرة من هذه الحياة سيشكل فارقًا كبيرًا!!
لم تمضِ سوى لحظات حتى سُمِعَت تلك الشهقة المنذرة بخروج الروح. كانت الصدمة التي علت وجوه الحاضرين قاسية إلى درجة هائلة تسمح لك بأن تستشعر ما هم بِصَدَدِ معاناته بعد موت مُؤَسّسَيّ مستشفى القلب الرحيم.
تقدمت ناديا وغطت وجه الدكتورة حياة وعلامات الحزن العميق تملأ تعابير وجهها والحيرة تملأ عينيها المغرورقتين بالدموع كيف لها أن تمليَ على أسرتها هذا الخبر.
خرجت ناديا من الغرفة تجرّر أذيال الخيبة والألم ومعاناة الفرقة، وخرجتُ أنا في إثرها أرقب ما سيحصل بطريقة ما أحسستُ نفسي داخل القصة وبتُّ أتتبّع تفاصيلها علّني أجد ذلك الدافع الذي كنت أبحث عنه طوال فترة سِنِي دراسة التمريض ألا وهو الهدف من هذه المهنة، كنت أسجّل كل ما يمرّ أمام عيني وكأنني آلة تصوير أخاف فوات أي مشهد مما يمرّ، وهكذا ذهبت ناديا إلى غرفة رانية ابنة الدكتورة حياة ووقفت أمامها ثم انثنت جاثية على الأرض ممسكة بكلتا يديها المرتجفتين، ناظرة إلى عينيها الرافضتين تصديق ما ستقوله ناديا متعاطفة مع مشاعرها المختلطة المتخبطة وقالت لها بصوت حازم متراوح بين الحزن والتماسك: إن أمك كانت تقول: «فراق الدكتور كمال لا يُبقي لهذه الحياة طعمًا» وحينها لم أكن أفهم ما تقول ولكنني الآن فهمت. عندئذ تركتْ يدي ناديا وخرجتْ مسرعةً لم تتحمّل ذلك الموقف ولكنني بقيت أرى انكسار الدكتورة رانية وضعفها وهي التي كنت أرتجف من حضورها.
حقيقة إن الانكسار يُضعف، بعد الانهيار الذي شعرتْ به راحت تلملم نفسها وتمسح دموعها وتقول لزوجها الدكتور بلال أنا سأشرف على تغسيل أمي لن أدع أيّ أحد يتولى هذه المهمة ثم نادتني: ناريمان تعالي معي، ذهبتْ فطلبت من الدكتور بلال أن يتولى إنزال الدكتورة حياة إلى الطابق السفلي حيث التغسيل فاستجاب لطلبها.
ركبنا المصعد ثم نزلنا حيث يخاف بقية زميلاتي أن ينزلن حيث تغسيل الموتى.
تابعت الممرضة ناريمان قائلة:
خرجنا من المصعد فإذا العتمة مخيمة على هذا الرواق الطويل الذي في نهايته تقبع تلك الغرفة التي ستُغسل فيها الدكتورة حياة، كانت الدكتورة رانية تقطع هذا الرواق بخُطا متثاقلة متباطئة مثيرة فيَّ دواعي الفزع ولذلك بقيتُ في إثرها متتبعة خطواتها حتى وصلنا وتقدمتُ لفتح باب الغرفة فإذا المقبض باردٌ فأشعلتُ الضوء فإذا غرفة ضيقة على اتّساعها تحوطها أربعة جدران كقضبان السجن الحديدية التي تمنع المسجونين من الهرب، وفي وسطها سرير ذو أربعة قوائم فارغ ينتظر ضيفه الجديد، ومناشف سُود وبيض لمناسبة حالة الموت التي تكمن في هذه الغرفة. وما هي إلا ثوانٍ حتى أحضروا الدكتورة حياة، الغريب في الأمر أني كنت أنعت الدكتورة حياة بلقبها وقت وضعها على ذاك السرير مع أنه بعد الموت يقولون عن الميت عند غسله ودفنه «جثة» من غير ذكر اللقب الذي كان للميت.
وها هي توضع على السرير وتنزع ثيابها قطعة قطعة وتغطّى بالثوب الأبيض، كانت الدكتورة رانية تنظر إلى والدتها والصدمة تعلو وجهها كانت غير مصدقة أنها تشرف بنفسها على تغسيل والدتها الغسل الأخير، بينما أنا كنت أتتبّع حركات المغسّلة كيف ترفع لها يديها، كيف تقلّبها من ناحية إلى أخرى كيف تكشف ناحية وتغطي أخرى، إنه لمشهد صعب على الإنسان أن يرى تغسيل إنسان آخر، ينصب عليك الماء لا تشعر ببرودته أو سخونته وتُقَلَّب وقد كنتَ تُقَلّبُ أمورًا كثيرة في حياتك.
انتهينا من تغسيل الدكتورة حياة وبدأنا بتكفينها فألبسناها الإزار والقميص ووضعنا القطن في منخريها وأذنيها ثم ألبسناها الخمار وبدأنا بلفّها باللفافات البيض وهنا انهارت الدكتورة رانية وبدأت بنزع اللفافة البيضاء عن وجه أمها… اتركن أمي، أمي…
في تلك اللحظة دخلت ناديا وللّه الحمد أنها دخلت، ما كانت إحدانا لتوقف الدكتورة رانية سوى ناديا التي قضت سنوات في بيتهم تمرّض الدكتور كمال.
كانت تصرخ بحرقة وتقول: انظري يا ناديا ما يفعلن بأمي ثم تنادي «أمي» وتصرخ بعلو صوتها، احتضنَتْها ناديا بقوة وصارت تردد كلمات كانت الدكتورة حياة دائمًا ما تردّدها: إنما الصبر عند الصدمة الأولى… في تكرار هذه الكلمة سَرَى إحساس جعل الدكتورة رانية ترجع إلى اتّزانها شيئًا فشيئًا ربما كانت كلمات ناديا بصوتها الحنون الذي يشبه إلى حدّ بعيد صوت الدكتورة حياة لها هذا التأثير القوي ثم سحبتها وأكملنا عملنا بلفّها بلفافتين بيضاوين.
في هذه الأثناء كان القبر يجهّز بحفره وتهيئة جانبيه باللَّبِن خوفًا من وقوع التراب على الميتة.
وكانت الأسرة كذلك تتحضّر لمراسم العزاء بتحديد مكان التعزية. خرجت الأسرة من المستشفى برفقة عربة مجهّزة لنقل الدكتورة حياة إلى الجامع الكبير ومِن ثمَّ إلى مثواها الأخير.
لم يكن من داعٍ لمرافقة هذه الأسرة فالكثيرون كانوا بجانب الدكتورة رانية لكنني استأذنت من مدير القسم الذي أعمل فيه واستقللت سيارة أجرة ولحقت بهم، وصلنا إلى الجامع فدخلوا ودخلتُ معهم كان الجامع فارغًا إذ لم يكن وقت صلاة ولكن ما هي إلا دقائق حتى وفد جمع ليس بقليل إلى الصلاة فنادى الإمام الصلاة جامعة.
ولتتخيّل معي أن يُنادى جمع هم فوق الأرض أحياء وأنت مسجَّى على بساط المسجد للصلاة عليك فيجتمع الناس ويكبّرون… الله أكبر…
ثم يقرؤون الفاتحة وقلوبهم تعتصر حُزْنًا عليك أو فرحًا بموتك. ثم يكبّرون فيقولون: الله أكبر ويصلون على النّبيّ ﷺ راجين الله أن يتغمّدك برحمته أو مالًا كثيرًا يرثونه بعد انفضاضهم عن دفنك ثم يكبّرون الله تعالى ويدعون لك بخصوصك ودموعهم تجري غلبةً من هول ما يُقَاسونه أو مزيّفة خوفًا من أن تنكشف حقيقتهم ثم يكبّرون الله ويدعون لك وللمسلمين والمسلمات، ويسألونه سبحانه أن لا ينفتنوا بعدك.
ومفارقتهم إيّاك أشدُّ ما يلاقونه من مصائبهم الحاضرة أو أهون ما يكون عليهم في أوقاتهم الحاضرة ثم يسلّمون فيقولون: السلام عليكم ورحمة الله… السلام عليكم ورحمة الله.
والسلام عليك وقتئذٍ إن كنت من أهل النجاة والفلاح…
الله أكبر لو تخيّل كل شخص منا ذلك المشهد وشهده بقلبه لاستعدّ حقّ الاستعداد ولكنّ أكثرنا غافلون… الله يرحمنا!
أكملت الممرضة ناريمان وصف ما يحصل قائلة:
انتهت الصلاة على الميتة وبدأ الحضور يتجهزون لإيصال الدكتورة حياة إلى مثواها الأخير في هذه الدنيا.
فتخيّل وقتئذٍ أن لو كان المسير بك إلى ذلك المستقر سريعًا وروحك تقول «قدّموني قدّموني» أو بطيئًا مُعَسَّرًا وروحك تقول «أخّروني أخّروني».
الحمد للّه كان مسير جنازة الدكتورة حياة ميسّرًا فوصلنا إلى الدفن في وقت قليل… مزيلين اللفافة البيضاء عن وجهها اقتربت من المجتمعين لأرى قبرها فكان عمقه قدر قامة وبسطة إلا أن ما يدهشك في النظر إلى قبرها والقبور المجاورة أنّ الكلّ منزلهم واحد، الأمير والفقير، المتعلّم والجاهل، كلٌ صائر إلى هذه الحفرة التي لا تتعدى أربعة أمتار!! الله أكبر سبحان الخالق العظيم!
أنزلوها وهم يهلّلون ويُحَوْقِلون وقد علت أصواتهم: لا إله إلا الله لا حول ولا قوة إلا باللّه فدفنوها على جنبها الأيمن إلى جهة القِبلة ووضعوا اللبِنة وبدؤوا بحَثْوِ التراب عليها.
يا له من مشهد صعب أن تحثو التراب فوق من تحبّ أن ترى وتشاهد أنك أوصلته إلى مثواه الأخير بيديك!!
وها هو الآن يأتي دور أحد المشايخ حيث سيلقّن الميتة، ساد الحضور صمت عجيب وبدأ الشيخ فقال: يا أمة الله ابنة أمة الله.
تخيّل أن الروح رجعت إليك بعد الموت لتجد نفسك في حفرة ضيّقة تعلوك لَبِنة وأنت تسمع قرع نعال أصحابك فوق التراب وهم لا يسمعونك.. تخيّل تلك الوحشة التي ستدركها إلا إن رحمك الله، ثم نادى الشيخ فقال: «يا أمة الله ابنة أمة الله»، تخيّل نفسك مكان الميتة.. فتبدأ بالجلوس وقد استأنست بصوت أحدهم يناديك ويكلّمك.
ثم نادى الشيخ: «يا أمة الله ابنة أمة الله» وها أنت تجلس لتستمع ما يريده منك ذاك الشخص. فبدأ الشيخ بتلقين الميّتة قائلًا لها: «اذكري العهد الذي كنتِ عليه في الدنيا شهادة أن
لا إله إلا الله وأنّ محمدًا رسول الله وأنّك رضيتِ باللّه ربًّا وبالإسلام دينًا وبمحمّد ﷺ رسولًا وبالقراءن كتابًا». تخيّل نفسك وأنتَ ممتنّ لتذكيرك بتلك الكلمات التي تجعل الملكين المكرّمين منكرًا ونكيرًا يقولان: «ما يُقعدنا عند مَن لُقّنَ حجّته».
بعد التلقين بدأ الناس بالانصراف شيئًا فشيئًا فتخيّل نفسك وقد تركوك وحدك وانصرفوا لا تعلم حالهم بعد موتك، أيتذكرونك بالهدايا والعطايا كما كنت تتذكرهم في الدنيا أم سيكون حظك منهم عَدَمَ الذكرى إلا في المناسبات!
جثت الدكتورة رانية على ركبتيها وتمتمت بكلمات لم أسمعها ثم انتصبت قائمة ورافقت زوجها إلى السيارة ليعودا إلى بيت المرحومة
إن شاء الله حيث سيتقبَّلان التعزية هناك في هذا اليوم الأول. ورجعت أنا إلى المستشفى لأعوّض ساعات العمل التي فاتتني وعزمت أن أذهب في اليوم الآتي إلى منزل الأسرة لتأدية التعزية.
في اليوم الآتي قضيتُ ساعات عملي واستأذنت للذهاب إلى ذلك المنزل الواسع الذي كنت أسمع عنه من ناديا وبعض الممرضات اللاتي كُنَّ يتردّدن إلى ذلك المنزل لتمريض الدكتور كمال.
دخلتُ البيت وصرت أتلفّت يمينًا وشمالًا علّني أرى أحدًا أعرفه لكن الغريب في الأمر أن نفسي كانت تحدّثني أنني أخطأت العنوان، إلا أنّ شكوكي لم تتبدَّد رغم رؤيتي لناديا في ذاك المكان، كان جوًّا غريبًا فهنا أناس يضحكون وهناك نساء يتفاخرن بالحلي الملبوس والسفر المخطط له والبيوت الفاخرة في باريس ولندن، وهنالك رجال يخطّطون لأعمال لاحقة ويتحدثون عن إنجازات سابقة، كان أشبه بنادٍ لطبقة الأغنياء لا عزاء.
قلبي الذي لا يبرحه الحزن من موت الدكتورة حياة ما كان ليتحمّل ذلك المكان فسلّمتُ على ناديا والدكتورة رانية ثم انسحبتُ.
في ختام هذه القصة أقول: الناس في الدنيا على ثلاثة أصناف صنف مؤمن تقي، ونتمنّى أن نكون منهم وصنف مؤمن أدركته الوفاة وهو يرتكب كبائر الذنوب قبل أن يتوب منها، ونرجو رحمة الله، وصنف كفار، ونسأل الله حُسنَ الختام. الحياة مهما أخذتنا بزخارفها إلا أننا لا بدّ أن نضع قول الله تعالى نصب أعيننا: ﴿ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ ٣٢﴾ سورة الأنعام.
أنا أعترف بأنّ الحياة تغرّنا أحيانًا بمظاهرها الفاخرة بأضوائها اللامعة بفراشاتها الطائرة التي تحملنا معها إلى أرض الأحلام، الأحلام الوردية التي لطالما سعينا وراءها لاهثين علّنا نلمس طيفها فيكون لنا منها نصيب.
لكن لو تبصّر أولئك المتفاخرون والمتفاخرات بإنجازاتهم العظيمة بزعمهم في ذلك العزاء تبصُّرَ نظرٍ إلى الواقع لعرفوا أن هناك فارقًا بين أرض الأحلام والواقع حيث نقع فريسة لشباك الضغوطات التي تواجهنا والتي تبدأ من الاستيقاظ صباحًا للعمل رغم دفء الفراش شتاءً وبرودته صيفًا لنؤمّن لقمة العيش وأجرة البيت وأقساط المدارس والجامعات والأدوية التي وإن انخفض سعرها لمدة معينة تعود فترتفع أضعافًا مضاعفة إلى أن نرجع إلى بيوتنا وقد أنهكنا تذمُّر مَن تذمَّر علينا وغضب من صَبَّ جامَ غضبه علينا من مديرين وموظفين وأصحاب معاملات فضلًا عن طول الطريق التي تأخذ من قوّتنا ما تأخذه، وفي رأيي كل هذا يهون عدا الذي ينتظرنا في البيت من مشاحنات بين أفراد الأسرة الواحدة وتربية الأولاد وتعليمهم أمور الدين وكيف نرتّب الأولويات وعدا عن المشكلات النفسية التي تترافق تدريجيًّا مع كِبَر الأولاد وتعرّفهم على صعوبات الحياة والتواءاتها التي تجعلك تقول في وقت من الأوقات: لا طاقة لي ما عُدْتُ أتحمّل أشعر بأن الدنيا ضاقت عليَّ بما رَحُبَتْ ليتني أموت.
وأنا من أولئك الأشخاص الذين إن بلغ بهم السيل الزُّبى وفاض بهم الكيل كما يقال تخطر في بالي هذه الأمنية، لكنني أتراجع في اللحظة الأخيرة وأتذكر حديث رسول الله ﷺ: «لا يتمنينّ أحد منكم الموت لضرّ نزل به فإن كان لا بد متمنيًا للموت فليقل: اللّهم أحيِني ما كانت الحياةُ خيرًا لي وتوفَّني إذا كانت الوفاةُ خيرًا لي» رواه البخاري.
وحينها أقول في نفسي يا حبيبي يا رسول الله كلّما كررت أحاديثك وجعلتُها نُصْبَ عينيَّ أرى صحة كلامك عين اليقين فكلٌّ منا يمرُّ على أحاديثك لكن التكرار لتعاليمك يفيدنا تعمُّقًا في المعاني الكامنة وراء هذه الكلمات الطيّبة.
فإني وبكل وضوح إذا تمنّيت هذه الأمنية لا يخطر لي كما لا يخطر لكم إلا الراحة. ولكن هل الراحة بالموت لكل أحد… الله يرحمنا!
ولنكن أكثر صراحة فإن الجهل بما تكون عليه حالة كل واحدٍ منا عند الموت وبعده تُثير في النفس تساؤلات عديدة وخوفًا عظيمًا واضطرابًا شديدًا، وخاصة إذا حضر هذا المعنى في القلب حضورًا قويًّا مع علم الواحد منّا بتقصيره.
ولكن أحيانًا من باب التخفيف على النفس أتذكّر ما رُوي عن الحبيب عليه الصلاة والسلام عندما سُئل: مَنْ أكيسُ الناس وأحزمُ الناس؟ فقال: «أكثرهم ذكرًا للموت، وأشدّهم استعدادًا للموت قبل نزول الموت» رواه الطبراني.
نعم، إنّ أعقل الناس مَن يستعد لما ينفعه بعد الموت لأن الدنيا دار المرور والآخرة دار القرار، وليت مَن كانوا في هذا العزاء عرفوا المعنى السامي الذي اجتمعوا لأجله فاعتبروا واشتغلوا بالتهليل والتسبيح وإهداء ما تُقُبّل من حسناتهم إلى من كان اجتماعهم بسببه لكان خيرًا لهم من ذلك الكلام.