فتخيّل نفسك أن كنتَ ذلك التقي الصالح الذي حضرته الوفاة وقد أتته ملائكة الرحمة بأحسن صورة وعاينتَ ملك الموت متهيئًا لقبض روحك وإذ به يسلّم عليك ويقول: «أبشر يا وليّ الله برضوانه» فتخيّل ذلك السرور العظيم الذي خالج قلبك والأمن والراحة اللذين استقرا في قلبك فأذهبا عنك الخوف من الموت والقبر، فإذا قبضت الروح وفارقت الروح الجسد صعدت بها الملائكة إلى السماء السابعة وبين الأرض والسماء ملائكة يبشرونك فتسمع تبشيرهم وهكذا حتى تصل إلى السماء السابعة حيث يسجّل اسمك في عليّين بينما يكون الأهل مشغولين بتغسيلك وتكفينك والصلاة عليك في جماعة كبيرة من المؤمنين يدعون لك ويستغفرون لك، ثم بعد أن يسجل اسمك في ذلك الموضع تنزل ملائكة الرحمة بالروح إلى حيث يكون جسدك من غير أن تدخل الروح الجسد.
إن الروح تبقى إلى جانب الجسد عند وضع الجنازة تجاوره فإذا احتمل الناسُ جسدَك إلى الدفن نادى هذا الروح من شدة الفرح «قدموني قدموني».
فإذا أوصلوك إلى القبر وَحَثَوْا التراب عليك وانصرفوا عادت الروح إلى جسدك وعاد إليه الإحساس وأتاك الملكان المكرّمان منكر ونكير يسألانك: «ما كنت تقول في هذا الرجل محمّد؟»، فتخيّل نفسك وقد ثبَّت الله قلبك فقلت: «هو عبد الله ورسوله أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله». فيقولان لك: «نم» فتنام كنوم العروس الذي لا يوقظه إلا أحبّ أهله إليه ويُوسَّع قبرُك سبعين ذراعًا طولًا في سبعين ذراعًا عرضًا.
فيا حبَّذا ذلك المكان الواسع المنوَّر بنور يشبه القمر ليلة البدر المفروش بالخضرة كما حصل لورَّاد العجلي حيث حُمِل إلى حفرته ففتح قبره فإذا اللحد مفروش بالريحان. فتخيّل نفسك وأنت في كل هذه السعادة إذ يفتح لك باب إلى الجنّة فيأتيك نسيمها، وترى مقعدك في النار لو مت على الكفر ثم ترى مقعدك الذي ستتبوَّأه في الآخرة فتعرف حينها فضل الإسلام معرفة عيانية كما كنت تعرف ذلك في الدنيا معرفة قلبية، ثم تبقى في هذا النعيم المقيم إلى أن يبلى الجسد، فإذا بلي الجسد إن كان من الأجساد التي يأكلها التراب ولم يبق إلا عجب الذنب تصعد روحك إلى الجنّة فتسرح بشكل طائر فتأكل من ثمار الجنّة وأشجارها، قال عليه الصلاة والسلام: «إنّما نَسَمَةُ المؤمن طيرٌ يعلُقُ في شجر الجنّة حتى يُرجعه اللهُ تعالى إلى جسده يوم يبعثُه» رواه الإمام أحمد.
فإذا كانت النفخة الثانية وبُعث الناس للحساب حُشرت وأنت طاعم كاسٍ راكب على ناقة رِحالتها من ذهب مُستظلّ بظلّ العرش، فإذا كان الحساب وقد أخذت كتابك بيمينك وسررت بما فهمتَ من كلام الملك العزيز الجبّار وما تفضّل به عليك من المجاوزة والغفران ووُزِنت صحائف أعمالك فرجحت حسناتك على سيّئاتك وتجاوزت الصراط مع زمر العابدين ووفود المتقين كالبرق الخاطف ثم التفت إلى الجسر فنظرت إليه ونظرت إلى الخلائق من فوقه وإلى جهنم من تحته فطار قلبك فرحًا إذ رأيت عظيم ما نجاك الله منه فحمدت الله كثيرًا وازددت له شكرًا ثم خَطَوْتَ آمنًا إلى حوض نبيّك محمّد ﷺ حيث يشرب منه المؤمنون منه قبل دخولهم الجنّة وبعد عبورهم الصراط فإذا بالحوض طوله مسيرة شهر وعرضه كذلك، آنيته كعدد نجوم السماء وشرابه أبيض من اللبن وأحلى من العسل وأطيب من ريح المسك فتشربه هنيئًا مريئًا لا تظمأ بعد ذلك أبدًا.
والآن وقد شربت تخيّل نفسك وقد تهيّأت لدخول الجنان التي أعدَّ الله فيها للمتقين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، الجنّة التي عشت عمرك تؤدي فيه ما افترض الله عليك وتتجنّب فيه ما نهاك عنه وتزهد فيه راجيًا من الله أن تشم رائحة الجنّة وها هي الآن أمامك أمام عينيك وها أنت تأتي بابًا من أبوابها وقد كُسيت من الحُسن والجمال ما لا يعلم مقداره إلا الله فإنّ أهل الجنّة يدخلونها في عمر ثلاث وثلاثين سنة جُرْدًا مُرْدًا على صورة أبيهم آدم ستون ذراعًا طولًا في سبعة أذرع عرضًا ويكونون بجمال يوسف الصدّيق صلوات الله وسلامه عليه، فيفتح لك ولمن معك ويا سرور قلوب المفتوح لهم باب جنّة ربّ العالمين فيُسلّم عليكم ويقال لكم: «طبتم فادخلوها خالدين»، فتخيّل طيب كلام المستقبلين لك وحُسن تسليمهم مع كمال صورهم وشدة نورهم، ونسيم طيب الجنان ينفح وجهك وجميع بدنك وتثور روائح الجنّة العبقة الطيّبة بأشجارها وثمارها وزعفرانها وكافورها ومسكها وعنبرها.
وقد نادى مناد: «يا أهل الجنّة إن لكم أن تصِحُّوا فلا تسقموا أبدًا وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدًا وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدًا وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدًا».
فبينما أنت تتخطى في ترب المسك ورياض الزعفران وعيناك ترمقان حُسن بهجة الدرّ وزينة تصويرها إذ نودي في أزواجك وولدانك وخدامك إنَّ فلانًا قد أقبل فأجيبوا، فيحضر الوِلدان المخلّدون صفوفًا لقدومك وعليهم من الحُسن والبياض كأنهم اللؤلؤ المكنون وبإحدى يديّ كلّ منهم صحيفة من ذهب وبالأخرى صحيفة من فضة ينتظرون ما تُملي عليهم فيُسْتجاب لك فيستقبلونك ويسلّمون عليك. فتخيّل نفسك انتهيت إلى بعض خيامك فنظرت إلى خيمة من دُرّة مجوّفة مفصّصة بالياقوت والزمرد فنظرت إلى حُسن أبوابها وبهجة ستورها ورميت ببصرك إلى داخلها وحُسن تأسيس بنيانها وإلى أسِرَّتها فإذا ألواحها من ذهب مُكلّلةً بالزبرجد والدرّ والياقوت مرتفعة ما لم يجئ صاحبها فإذا أردت الجلوس عليها تواضعت لك حتى تجلس عليها فتخيّل صعودك عليها وأنت لابسٌ الحرير والسندس والإستبرق وقد علاك تاج، أدنى لؤلؤة فيه لتضيء ما بين المشرق والمغرب وبجانبك زوجاتك وأمامك قصورك وأراضيك الواسعة وبساتينك الشاسعة المملوءة شجرًا أصولها من ذهب وفضة وأفنانها اللؤلؤ والزبرجد تتدلى إليك إذا اشتهيت شيئًا منها فإن أكلت قائمًا لم تؤذك أو قاعدًا لم تؤذك أو مضطجعًا لم تؤذك وذلك قول الله تعالى: ﴿وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا﴾ سورة الإنسان، وفي غمرة كل هذا الفرح والسرور الذي تشعر به تحن وتشتاق أن تزور أحبابك وأصدقاءك ممن كنت تعرفهم في الدنيا فيطير بك سريرك حتى تنزل أمام السرير الذي تريد زيارته فتجلسون متقابلين فتتحدثون أو تلهمون التسبيح فتسبّحون الله وتعظّمونه وتقرؤون القرءان، وكؤوس شرابكم ممتلئة من لبن لم يتغيّر طعمه أو من خمر لذّة للشاربين تجدون عاقبته طعم المسك فذلك قول الله:
﴿ يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ ﴾ سورة المطففين.
وأشجار الجنّة تتحرك فيصدر لها صوت جميل جدًا تميل إليه النفوس يزداد مجلسكم أنسًا على أنس، وربما يمرّ الطير في سمائكم فتشتهونه فيخرُّ مشويًّا فتأكلونه ثم يعيده الله كما كان فيطير فتأكلون وتشربون هنيئًا بما أسلفتم في الأيام الخالية لا يتحول طعامكم ولا شرابكم إلى غائط ولا بول إنما يفيض من جسمكم عرقًا كالمسك. ولكن مع كل هذا النعيم فليس شىء أحبّ إلى أهل الجنّة من رؤية الله يرونه بلا كيف ولا مكان ولا جهة ولا مسافة.
فقد ورد في الحديث: «إذا دخل أهل الجنّة نادى مناد: إن لكم عند الله موعدًا يريد أن يُنْجِزَكُمُوه، قالوا: ألم تُبيّض وجوهنا وتُنَجّنَا من النار وتُدخِلْنا الجنّة؟ فيكشف الحجاب، فوالله ما أعطاهم الله شيئًا أحبَّ إليهم من النظر إليه» رواه الترمذي.
لمثل هذا فليعمل العاملون وليشمّر المشمّرون وليعلم المؤمن أنه ما الدنيا في جنب الآخرة إلا مثل ما يجعل أحدكم إصبعه في اليمّ فلينظر بمَ يرجع، معناه هذا البلل الذي يعلق بالإصبع ماذا يكون بالنسبة لعظم البحر؟ كلا شىء، فليعمل الإنسان في هذه الأيام القصار لتلك الأيام الطوال.