وتخيّل حال ذلك الكافر بينما هو في نزع الموت وكربه وسكراته وغمه وقلقه وملائكة العذاب بمناظرهم المخيفة قد حضروا عنده يضربونه من أمام ومن خلف وهو يشعر ومن حوله لا يشعرون قال تعالى: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ﴾ سورة محمّد، ومع ذلك فإن الكافر لا يستطيع أن يصرخ أو يفلت من أيديهم لأن أعضاءه لا تعمل في ذلك الوقت من شدة الألم فهو يشعر بجذب الروح من أسفل قدمه إلى أعلاه فإذا بلغ منه الكرب منتهاه وعمت الآلام جميع جسده وقلبه محزون مترقب ينتظر ما يحلُّ به يأتيه ملك الموت فيبشره بعذاب الله ويقول له: «أبشر يا عدو الله بعقابه»، فتخيّل ما حلَّ به من النكد والفزع في ذلك الوقت ثم إذا خرجت الروح تصعد به ملائكة العذاب حتى ينتهي به إلى السماء الأولى فلا يفتح له باب السماء فيرد إلى الأرض.
فالكفار لا يتمكنون لا في الدنيا ولا في الآخرة من دخول أيّ من السماوات السبع حتى يلج الجمل في سَمّ الخِيَاط. والجمل هو الحبل الغليظ الذي يُعمل للسفن، والخِيَاط الإبرة، وسَمّ الخياط ثقب الإبرة معناه مستحيل أن يدخلوا السماوات والجنة، هم لا يتمكنون من ذلك لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وبعدما يرد الكافر إلى الأرض تنزل به ملائكة العذاب من باب في هذه الأرض حيث ينفذ إلى الأرض السابعة ويسجل اسمه في ديوان الكفار ثم يردونه إلى هذه الأرض، قال تعالى:
﴿ كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) ﴾ سورة المطففين.
وبعدما يرد الروح إلى الأرض حيث جسده، الروح يبقى إلى جانب الجسد يجاوره من غير أن يحل فيه فإذا حمل الجسد إلى الدفن فإن هذا الروح من شدة الخوف مما ينتظره في القبر يقول: «يا ويلها أين تذهبون بها أخروني أخروني».
فتخيّل إن وُضع ذلك الكافر في قبره وتولّى عنه أصحابه وهو يسمع قرع نعالهم إذا انصرفوا ما يكون حاله وقد وجد نفسه محاصرًا في التراب مضيقًا عليه؟! وبينما هو في ذلك الذهول والذعر إذ بملكين أسودين أزرقين يأتيانه يحفران الأرض بأنيابهما أعينهما كالبرق الخاطف وأصواتهما كالرعد القاصف يضربان القبر بأنيابهما فيسألانه ويقولان له: «من ربّك وما دينك وما كنت تقول في هذا الرجل محمّد» فيقول عن دهشة من شدة الفزع من غير ضبط لسانه: «لا أدري». فيقولان له: «لا دريتَ ولا تليتَ» فيضربانه بمطرقة بين أذنيه من حديد لو ضرب بها جبل لذاب فيصيح صيحة يسمعها من يليه إلا الثقلين.
ثم يقال للأرض: «التئمي عليه» فيضيق عليه القبر حتى تتشابك أضلاعه وتسلّط عليه هوام الأرض بحيث لا يفلت منها وهو مع كل ذلك العذاب والضيق والوحشة والظلمة فيزداد غمًّا فوق غم.
ثم تؤخذ روحه إلى مكان دون السماء الأولى فيقال له: «انظر إلى مقعدك من الجنة أبدلك الله به مقعدًا من النار» فيراهما جميعًا.
فيزداد حسرة فوق حسرة فإذا بلي جسده تعذّب روحه في سجين وهو مكان في الأرض السفلى ثم لا يزال هكذا معذبًا إلى أن يبعثه الله فيعذب العذاب الأشدّ.
تخيّل ذلك الكافر وقد سمع بانفراج الأرض من رأسه فوثب مغبرًا من قرنه إلى قدمه بغبار قبره فتخيّله بعُريه ومذلته وانفراده، بخوفه وحزنه بغمومه وهمومه في زحمة الخلائق حتى إذا تكاملت عدة أهل الأرض من إنسها وجنها وشياطينها واستووا جميعًا في موقف العرض والحساب إذ بهم يُنقَلونَ إلى ظلمة عند الصراط لتتبدَّل معالم الأرض.
فتُسَوَّى وتُعَاد كما خُلِقت أول مرة ليس عليها جبل ولا فيها وادٍ إنما هي ممدودة مدَّ الأديم وقد زيد في سعتها حيث دُكَّتْ جبالها دكَّا وذهب ماء بحارها فلم يبقَ لها قطرة وتناثرت نجوم السماء وطُمِس نور الشمس والقمر فأظلمت الأرض بخمود سراجها وإطفاء نورها وإذ بالسماء تنشق وتنفطر ويا لَهَوْل صوت انشقاقها، تلك السماء العظيمة الحجم تنشق وتنصدع وتنفطر وتصير كالفضة المذابة، حقًّا إنه لأمر تذهل له العقول، والكافر بين كل ذلك ينظر ويرى ويسمع ويعي أن ما كذَّب به قبلًا إنه لأمر حقيقي يُنَفَّذُ أمام عينيه!
فإذا سُوّيت الأرض أعيد الخلق إليها وقد أحدقت بهم صفوف الملائكة وكلٌّ منهم مشغول بحاله عن النظر في حال غيره لا يلتفت إلى أحد من أقاربه لعِظَم ما هو فيه فذلك قوله تعالى: ﴿ يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)﴾ سورة عبس.
فتخيّل ذلك الكافر وهو يسمع أصوات الخلائق من حوله ينادي كل منهم نفسي نفسي ويا هول ذلك وهو ينادي معهم مشغول بنفسه ومهتم بخلاصها من عذاب ربها لهول ما عاينه وشاهده وبينما هو كذلك إذ تدنو الشمس من رؤوس العباد ولا ظل في ذلك اليوم إلا ظلّ عرش ربّ العالمين ولا مكان له في ذلك اليوم هناك فيجتمع له مع ازدحام الأمم وتدافعهم ووهج أنفاس الخلائق والعطش الشديد، حرُّ الشمس، فيفيض منه العرق حتى يُلْجَمَ به من طول ذلك اليوم حتى يقول: «ربّ أرحني ولو إلى النار».
يا لَعِظم تلك المواقف والأهوال والشدائد التي يخوضها الكافر وتستدعي منه أن يقول: «ربّ أرحني ولو إلى النار»! وهو لا يعلم ما ينتظره في النار!
فإذا جاء وقت العرض والحساب تخيّل ارتعاد فرائصه واضطراب جوارحه وتغيّر لونه وهو فـَزِعٌ مرعوب على ما فرَّط في حقّ الله تعالى. فتُغَلُّ يده اليمنى وقتئذٍ إلى عنقه وتُجعل يده اليسرى وراء ظهره فيُأتى كتابَه بشماله من وراء ظهره.
فتخيّل ذُلَّه وإيقانه الهلاك وهو يتخطى الخلائق بسواد وجهه وكتابه في شماله وهو ينادي بالويل والثبور وينادى فيه: «هذا فلان بن فلان قد شقي شقاءً لا يسعد بعده أبدًا».
تخيّل تلك الفضيحة الكبرى التي تُعلَن على مسمع الخلائق كيف وقعها وكيف حال صاحبها، وبينما هو كذلك إذ يقال له وهو ينظر إلى جسر مضروب على جهنم بدقته ودُحُوضه وجهنم تحته بظلمتها ولهيب نارها: «اركب الجسر».
فتخيّل خفقان فؤاده وفزعه وهو ينظر إلى الزالين والزالات عنه وإلى الكلاليب العظيمة التي تلتقط البعض فتجذبهم إلى جوف النار وهم يصرخون وينادون وقد أيِسوا من أنفسهم وأيقنوا دخول النار لا محالةَ.
مع كل ذلك يُطلب منه ركوب الجسر وهو خائف أن يتبعهم فتزل قدمه فتَهوى من الجسر فيجد ما يخاف ويحاذر. فيركب الجسر وقد علم أنّ يُسْر الجواز عليه وعُسْرَه على قدر الأعمال وليس له إلا الطامات والمعاصي ولا طاعات له، فتزل قدمه وكذا الأخرى ولا يشعر إلا والكلاليب قد دخلت في جلده ولحمه وجذبته إلى النار.
النار التي أُوقد عليها ألف سنة حتى احمرّت وألف سنة حتى ابيضّت وألف سنة حتى اسودّت فهي سوداء مظلمة.
فتخيّل دخول ذلك الكافر النار الذي لم يلبث أن دخلها حتى تساقط لحمه وأطلقت النار على ما في جوفه فأكلت ما فيه وهو ينادي فلا يرحم ويبكي ويعطي الندم.
وبينما هو في ألمه وكربه إذ بمنادٍ ينادي: «يا أهل الجنة خلود فلا موت ويا أهل النار خلودٌ فلا موت».
ما أعظم وقع هذه الكلمات على سمعه وما أشدها حين يوقن أنه لا مخرج له مما فيه وقد زاد الله في حجمه حتى صار ما بين منكبيه مسيرة ثلاثة أيام وضرسه كجبل أحد قُطّعت له فوق كل ذلك الحريق ثياب من نار فهو محاط بها من كل الجهات معذّبًا بشتى أنواع العذاب من عذابٍ بالحريق إلى عذاب بالزمهرير وهو البرد الشديد إلى تسليط الحيات الواحدة منها كالوادي، وتسليط العقارب الواحد منها كالبغل. إلى غير ذلك مما لا يعلم جملته وتفصيله إلا الله عزَّ وجلَّ. فتوهمه وقد طال فيها مكثه وبلغ غاية الكرب واشتد به الجوع فطلبه فإذا طعامه من ضريع وهو شجر ذو منظر قبيح جدًّا ورائحته كريهة جدًّا لا تطاق لكنه من شدة اضطراره ومن شدة جوعه وحرمانه كأنه يأكله بدون اختيار ملائكة العذاب تطعمه من هذا، قال تعالى: ﴿ أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)﴾ سورة الصافات، أو يكون طعامه من غسلين وهو ما يسيل من جلود أهل النار المستقذر، لأنه كلما أكلت جلودَهم النارُ يُكْسَوْنَ جلودًا غيرها ليذوقوا العذاب، يبدلهم الله جلودًا غيرها فيها رطوبة فتحترق ويسيل منها ذلك المستقذر فهذا السائل من جلودهم جعله الله طعام أهل النار.
فإذا غصّ بهذا الطعام تذكر شراب الدنيا وأن مَن يغص إنما يزيل غصصه بالماء فإذا شرابه الماء المتناهي في الحرارة فإذا قرّب منه سال جلد وجهه فإذا شربه قُطّعَتْ أمعاؤه.
فلا يَحيَوْن فيها حياة هنيئة ولا يموتون فيرتاحون من العذاب قال تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لاَّ يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلا نَصِيرًا ٦٥﴾ سورة الأحزاب.