لقد عرفت الأمة الإسلامية على امتدادها وعبر القرون علماء أفذاذًا برعوا في شتّى الفنون والعلوم الإسلامية كعلم الكلام والفقه واللغة العربية وغيرها فسادوا الميادين وسَمَتْ بهم الأمّة صادقين ورعين زهّادًا نشروا دين الحق وردّوا على أهل الباطل والإلحاد فلجموهم بلجام الأدلة والبراهين الساطعة. وقد ورد أنَّ سيّدنا عيسى عليه السلام وصف علماء أمّة سيّدنا محمّد عليه الصلاة والسلام فقال: «علماء حكماء بررة أتقياء كأنّهم من الفقهِ أنبياء».
وكان من علماء الصوفية الحقّة الذين لبسوا الصوف على الصفا واقتفَوْا طريق المصطفى ﷺ وتعلموا ما افترض الله عليهم واجتنبوا المحرمات وأدَّوْا الواجبات وازدادوا من النوافل فنالوا بركةً وإكرامًا من الله تعالى فوصلوا إلى الولاية فأكرمهم الله بالكرامات الباهرات الشيخ الجليل الطيّب أحمد الرفاعي الكبير سليل الحسب والنسب.
نسبه
هو السيّد الشريف أحمد بن علي بن يحيى الرفاعي صاحب مَنْقَبَةِ تقبيل يد الرسول الأمين ﷺ.
نسبه من جهة والده يصل إلى سيّدنا الحسين بن علي رضي الله عنهما. ونسبه من جهة أمه يصل أيضًا إلى سيّدنا الحسين ابن السيّدة فاطمة بنت الرسول ﷺ.
ولد رضي الله عنه سنة 512 للهجرة في العراق في ناحية البطائح، والبطائح عدة قرى مجتمعة في وسط الماء بين واسط والبصرة.
وفي سن السابعة من عمره توفي أبوه في بغداد فكفله خاله الشيخ الزاهد القدوة السيّد منصور البطائحي رضي الله عنه وأرضاه، وقد ربّاه تربية دينيّة وأحسن تربيته.
والإمام أحمد الرفاعي الكبير هو مؤسّس الطريقة الرفاعية، وهذه إحدى الطرق التي أحدثها أكابر الأولياء كالجيلاني والنقشبندي وغيرهم رضوان الله عليهم. وهي من البدع الحسنة التي توافق الكتاب والسنة المطهّرة.
نشأته العلمية
نشأ الإمام الرفاعي رضي الله عنه وأرضاه منذ طفولته نشأة علميّة، وأخذ في الانكباب على العلوم الشرعية فدرس القرءان الكريم وترتيله على الشيخ عبد السميع الحربوني وله من العمر سبع سنين. وأدخله خاله على الإمام الفقيه الشيخ أبي الفضل علي الواسطي رضي الله عنه، فتولى هذا الإمام أمره وقام بتربيته وتعليمه،
فبرع الشيخ أحمد الرفاعي في العلوم النقلية والعقلية.
وكان الإمام الرفاعي رضي الله عنه يلازم درس خاله الشيخ أبي بكر البطائحي أحد علماء زمانه، وحفظ رضي الله عنه كتاب التنبيه في الفقه الشافعي وقام بشرحه شرحًا عظيمًا.
وأمضى رضي الله عنه أوقاته في تحصيل العلوم الشرعية على أنواعها، وشمّر للطاعة وجدَّ في العبادة حتى صار عالمــًا وفقيهًا شافعيًّا رجع مشايخه إليه وتأدّب مؤدّبوه بين يديه. قال الإمام الشافعي رضي الله عنه: «ما اتخذ الله وليًّا جاهلًا».
من مناقبه
كان الشيخ أحمد الرفاعي رضي الله عنه كاظمًا للغيظ من غير حِقدٍ، متواضعًا هيّنًا ليّنًا بشًّا، أعرف أهل عصره بكتاب الله وسنّة رسوله ﷺ وأعلمهم بها، بحرًا من بحار الشرع، سيفًا من سيوف الله، وارثًا أخلاق جده رسول الله ﷺ.
قال الفقيه العالم الكبير أبو زكريا يحيى ابن الشيخ الصالح يوسف العسقلاني الحنبلي: «كنت في «أم عبيدة» زائرًا عند السيّد أحمد الرفاعي وحوله من الزائرين أكثر من مائة ألف إنسان، فيهم من الأمراء والعلماء والشيوخ والعامة، وقد قام السيّد أحمد الرفاعي بإطعامهم وإكرامهم. وكان يصعد الكُرسي بعد الظهر فيعظ الناس، والناس حلقًا حلقًا حوله. فصعد الكرسي ظهر الخميس، وفي مجلسه وعّاظ مدينة واسط وعددٌ كبيرٌ من علماء العراق وأكابر القوم. فبادره قومٌ بأسئلة من التفسير وآخرون بأسئلة من الحديث وجماعة من الفقه وجماعة من الخِلاف وجماعة من الأصول وجماعة من علوم أُخر. فأجاب عن مائتي سؤال من علوم شتى ولم يتغيّر حاله ولا ظهر عليه أثر الحدّة».
قال الراوي: «فأخذتني الغيرة من سائليه فقمت وقلت: أما كفاكم هذا؟ والله لو سألتموه عن كل علمٍ دُوّن لأجابكم بإذن الله بلا تكلّف. فتبسم السيّد أحمد الرفاعي رضي الله عنه وقال: دعهم يا أبا زكريا فليسألوني قبل أن يفقدوني فإنّ الدنيا إلى زوال والله محوّل الأحوال. فبكى الناس وتلاطم المجلس بأهله وعلا الضجيج ومات في المجلس خمسة رجال وأسلم من غير المسلمين ثمانية آلاف رجل أو أكثر وتاب أربعون ألف رجل».
كرامته بتقبيل يد النّبيّ ﷺ
قال الإمام الرافعي في كتابه الذي سمّاه «سواد العينين في مناقب الغوث أبي العلمين» ما نصه: «أخبرني شيخنا الإمام الحجة القدوة أبو الفرج عمر الفاروثي الواسطي قال: حجَّ سيّدنا وشيخنا السيّد أحمد الرفاعي عام 555 للهجرة فلما وصل إلى المدينة وتشرف بزيارة جده عليه الصلاة والسلام وقف تجاه حجرة النّبيّ ﷺ ووقفنا خلف ظهره فقال: «السلام عليك يا جدي»، فقال له عليه أفضل صلوات الله: «وعليك السلام يا ولدي»، فتواجد لهذه النغمة -أي لحُسن الصوت- وقال منشدًا:
في حالة البعد روحي كنتُ أُرسلهــا
تُقَبّلُ الأرض عنـّـي وهْيَ نائبتي
وهذه دولةُ الأشـباح قد حضرت
فامدد يمينَك كيْ تحظَى بها شــفتي
فمدَّ رسول الله ﷺ يده الشريفة من قبره الكريم فقبّلها السيّد أحمد الرفاعي في ملأ يقربُ من تسعين ألف رجل، والناس ينظرون يد النبيّ ﷺ ويسمعون كلامه، وكان فيمن حضر الشيخ حياة ابن قيس الحراني، والشيخ عبد القادر الجيلاني، والشيخ عدي الشامي وشاهدوا ذلك وغيرهم رضي الله عنهم أجمعين». اهــــ.
وقد ذكر هذه المنقبة الكثير من العلماء الأجلاء وهي دليلٌ على علو مكانة الشيخ أحمد الرفاعي رضي الله عنه ونفعنا الله به وبنفحةٍ من نفحاته.