«أعظم الله أجركم وغفر لميّتكم»، «أعظم الله أجركم»، غادر الشخص الأخير من القاعة الملاصقة للمسجد، وبدأت أسمع صوت أذان المغرب. بقيت وحيدًا في تلك القاعة الواسعة، ومعي عمّال النظافة الذين بدؤوا بتنظيف القاعة تحضيرًا لعزاء آخر.
انتهت الأيام الثلاثة من العزاء وكأنها لم تكن، وكأن آخر شىء أتذكره ذلك الشجار في الساعة المتأخرة من الليل، حتّى إنّي لا أتذكر سبب الشجار بل كل ما أتذكره كلمات خرجت من فمي ليتني لم أقلها، «وجودك في حياتي كعدمه، أصلًا أنت لا تقومين إلا بأعمال التنظيف، وأيّ خادمة بعشرين ألف ليرة تفعل ما تفعلينه لكن تنظيفها أحسن وهذا الفرق». أذكر تمامًا كيف تدحرجت دمعتها واحمرّ لونها وكيف انصرفت إلى الغرفة من دون أن تتلفظ بكلمة، لم أهتم لها في تلك الليلة فقد جرت العادة أن نقوم في صباح اليوم التالي لتأتي «وتطري الجو» لنكمل حياتنا وكأن شيئًا لم يكن. لكنني كنت مخطئًا هذه المرة، فهي لم تستيقظ في صباح اليوم التالي ولم «يطرى الجو» بل أصبح ملبدًا قاتمًا كئيبًا موحشًا.
فتحت باب المنزل وأشعلت النور، لا يوجد أي صوت في البيت، سكون قاتل يملأ المكان، لا يوجد من يسألني «جبت كل الغراض اللي وصيتك عليون» لا يوجد من أمازحه، لا يوجد من أتشاجر معه، لا يوجد من أفضفض له عناء وتعب العمل.
رحلت… رحلت وأخذت معها الألوان من بيتي ومن حياتي، رحلت وأخذت معها كل ما أبهجتني به في هذه الدنيا القاسية، لم أكن أعرف أنني سأفتقد اتصالاتها المتكررة بي في النهار لتخبرني بما تريده من احتياجات البيت، وأتشاجر معها بالمقابل أن المصروف زاد، لم أكن أدري أنني سأشتاق إلى رسائلها لتسألني أين أنا عندما كنت أذهب إلى رفاقي بعد العمل من دون أن أخبرها، كنت أظنه «نق نسوان» لكنه في الحقيقة حبّ. ليتني أستطيع أن أعتذر منها، ليتني أستطيع أن أوصل لها هذه الكلمات، لكن فات الأوان. هي تحت التراب الآن وأنا أسير وحشتي وندمي. ما أقساها من حياة سأعيشها من دونها.
استيقظت على صوت صادر من الطابق العلوي نظرت إلى الساعة فوجدتها الساعة العاشرة إلا ربع صباحًا «يا الله، لماذا لم توقظيني يا امرأة» صرخت بأعلى صوتي، لكن تذكرت، هي لن توقظني بعد اليوم هي لن تحضر لي طعام الفطور بعد اليوم، شعرت بعدها بشكة صغيرة في قلبي وغبت عن الوعي.
بدأت أسمع صوت بعض الأشخاص من حولي، لكن كلامهم لم يكن مفهومًا بادئ الأمر حتى بدأت أستعيد وعيي تدريجيًّا، فسمعت صوتها الممزوج بغصة «أرجوكم طمنوني حيصير منيح» وسمعت صوت رجل يقول: «لا تقلقي يا أختي، الحمد للّه أننا أسعفناه فورًا، وإلا لكنا خسرناه، الحمد للّه هو الآن بخير لكن عليه أن ينتبه إلى صحته، فالعصبية غير مناسبة له بالمرة خاصة خلال الفترة الأولى من العلاج» لوهلة لم أعرف إن كان يتكلم عنّي، كل ما كنت مصدومًا به أنني سمعت صوتها هل هو حقيقة؟ هل أنا أحلم؟ ماذا يحدث، فتحت عيني وإذ بها أمامي!! كيف؟؟ لقد دفنتك بيدي هاتين؟ لكن تداركت الموضوع فورًا عندما رأيت أنابيبَ وأشرطة متدلية من جسدي والممرضون يقومون بترتيب الأدوات تحضيرًا لنقلي إلى طابق الأمراض القلبية. لم يكن ذلك إلّا أضغاث أحلام.
سمعتها تقول ودموع القلق والفرحة تملأ عينيها: «الحمد للّه على سلامتك يا حبيبي وتاج رأسي». حاولت القيام لكنها منعتني وقالت: «لا تتعب نفسك يا قرة عيني، الطبيب طلب أن ترتاح وأن لا تبذل أي جهد» سألتها ما الذي حدث، فأخبرتني أنها بعد أن ذهبت إلى غرفتها سمعت جلبة من ناحية المطبخ فهرعت لتجدني ملقى على الأرض، ولوني شاحب، فهرعت إلى الجيران لتستنجد بهم وأحضروني إلى المستشفى، ليتبيّن أنني أصبت بنوبة قلبية، لكن الحمد للّه «مرقت عخير وبوعدك ما بقى سمّلك بدنك ولا أزعجك بأي كلمة تدايقك، المهم تقوم بخير».
وقعت آثار كلماتها في أذني كالسيف، فأمسكت يدها، وقبّلتها، وقلت لها: «سامحيني، سامحيني عن كل مرة أهنتك فيها، سامحيني عن كل لحظة جرحت مشاعرك فيها، أنا من عليّ أن أقطع هذا الوعد، أرجوك سامحيني» خرجت هذه الكلمات من فمي وعيوني تملؤها الدموع. وعد أقطعه على نفسي كما ينبغي لكل منّا أن يفعل، لن أجرح زوجتي أو أوجه لها أي كلمة تهينها، وإن كان قد صدر منا أيّ شىء من هذا فعلينا الاعتذار من زوجاتنا، قبل أن يصير حلمي واقعًا لأيّ زوج.