الحياة مسرح كبير نتعلم منه العبر والدروس، وأصناف البشر كثيرة جدًّا، منها الطيّب، والخبيث، منها المعطاء والبخيل وغيرهم من أنواع الناس، والعبر التي تصادفنا في حياتنا كثيرة، ويا لفطنةِ من يتلقّى هذه العبر ويتعلّم منها ويفهم مغزاها…
إنه موقف صغير حصل معي، لكن معناه بالنسبة لي كان كبيرًا جدًّا وعميقًا. فقد خرجت في يوم إلى شرفة منزلي الذي سكنته منذ شهر تقريبًا فرأيت على الشرفة المقابلة امرأة عجوزًا يبدو وكأنها في التسعين من عمرها لكن وعيها ومشيتها يقولان بأنها أصغر قليلًا، لأني بعد ذلك علمت كم عمرها من جيرانها وزوجة ابنها، وكنت كلّما خرجت إلى الشرفة أتفقدها فأحيانًا كنت أراها وأحيانًا لا، فكرت بهذه المرأة لكن لا أدري لماذا؟ إنها تحاول أن تسلّي نفسها لأن السنين التي عاشتها قد وصلت بها إلى وقت لم تعد تستطيع أن تقدم شيئًا فيه، فلم تعد قادرة على العمل في المنزل فصارت أسيرة إحسان من حولها وإن كانوا يحبّونها، فيقدمون لها الطعام والشراب ويقضون حوائجها لكبر سنّها. نظرتُ في وجهها من بعيد فغمرني إحساس بالأمان والطمأنينة، رغم ما خطّته السنون من تجاعيد وأخاديد على وجهها لكنّه بدا لي وديعًا بريئًا، مريحًا، فألقيت عليها التحيّة مشيرة بيدي، لأني مع مرور الوقت لاحظت بأن سمعها غير قوي، لذلك لوّحت لها لترى سلامي وابتسمتُ لها ابتسامة صادقة من أعماقي، ثم أشارت بيدها لتردّ لي التحيّة بمثلها، ولا أدري كيف صار الدعاء يصعد من أعماقي متوجهًا لتلك العجوز الطيّبة بالخير والعافية وحُسن الختام، ربما لأني تخيّلت نفسي مكانها، فأحسست بأني مقيّدة، لا أستطيع الحراك بسهولة إلا ضمن خطوات محدّدة، فانفطر قلبي عليها وشعرت بشعورها، سبحان الله كيف نكون وكيف نصير، يكون الإنسان في عزّ عنفوانه وشبابه، ثم يؤول إلى هذا المصير، هي أشياء نعرفها جميعنا ولكن ليس كلّنا نتفكر بها، إنها حالة إنسانية، تقتضي الانتباه…
ودارت الأيام تلو الأيام، وكنت كلما وقفت في الشرفة أراها فأبتسم لها بنفس الابتسامة، فتبتسم وتشير لي بيدها، بعد ذلك صارت كلّما رأتني ترفع يديها وتدعو لي بالعافية، فتدمع عيناي من ردة فعلها لرؤيتي فأرد بابتسامة امتنان لأنها لا تستطيع سماعي إذا كلّمتها، وحصل مرّة أن تغيّر الجو فصار ممطرًا، ورافق المطر عواصف رعدية، ثم تغيّبتُ عن البيت لثلاثةِ أيام لأني زرتُ والدتي لمرضها، ثم عُدتُ إلى بيتي، وعندما خرجت لأنظف الشرفة، لمحت العجوز واقفة على شرفتها وكانت كأنها تنتظرني، فلما رأتني جحظت عيناها، وسلّمت عليّ بصوتٍ عالٍ وتمتمت بكلمات سريعة متتالية قائلة: كيف حالك؟؟ أين كنت؟ مرّت عدة أيام لم أركِ فيها… هل أنتِ مريضة؟؟ هل أصابك زكام؟ هل أنت متعبة؟ لقد انشغل بالي عليكِ قلقت عليك كثيرًا، وقلت في نفسي، ترى أين هي لم أرها منذ أيام… كانت هي تُصَرّحُ بكل هذا، وأنا أقف مندهشة لا ألوي على شىء أو بالأصح لم يتسنَّ لي أن أفعل شيئًا سوى أن أربت على صدري بيدي تارةً وأشير إليها بالتحية تارة أخرى فهي لم تعطني وقتًا لكي أُفهمها بأني لم أكن مريضة، ولا أصابني زكام.
ولكني عرفتُ بأنّها لا يهمّها أن تسمع جوابي لأنّها اطمأنت عنّي فألقت ما في جعبتها من كلماتٍ خبأتها لحين رؤيتي وما إن انتهت من تفريغها في وجهي، حتى سكتت فجأة، كالإناء الذي أُفرغ مرّة واحدة، ثم دخلت إلى البيت وكأنها شعرت بالراحة عندما رأت أني بخير فهدأت وارتاحت… وبقيتُ لحظاتٍ مسمّرة في مكاني من رهبة الموقف، كان كل ما قدّمتُهُ لهذه المرأة الطيبة ابتسامة من القلب فقط، وإحساسًا نقلتْهُ لها نظراتي بالتعاطف معها، فأحسّت هي بصدقها ووقعت من نفسها موقعًا حسنًا، كم هو جميلٌ أن تشعر بأن أحدًا يسأل عنك أو يفتقدكَ بلا أيّ مقابل، هو لا يريد منك شيئًا، بل يحبّك في الله، بعد أن ندرت هذه المشاعر وأصبحت الماديّةُ في حياتنا عنوان الكثيرين، أصبحنا لا نتعامل إلا بالمقابل -إلا من رحم ربّي- يعني أعطني كي أعطيك، أو اخدمني كي أخدمك، ندرَ العطاء تقريبًا ابتغاء مرضاة الله، والذي فعلْتُهُ لم يكلّفني مالًا ولا تعبًا ولا جهدًا، بل ابتسامة لا غير جَعَلَتْها تدعو لي بالخير كلّما لمحتني فتذكرتُ قول النّبيّ ﷺ: «تبسّمك في وجه أخيك صدقة» رواه الترمذي، يا حبيبي يا رسول الله إنّ كل ما قلته وعلّمتنا إيّاه هو حكم وعبر. أنت تعلّمنا أن نحبّ بعضنا وأن نعطف على الكبير والصغير والمسكين والضعيف حتى تتآلف قلوبنا ويسود الوئام في حياتنا.
لم أجد ما أعبّر به عن تأثري إلّا بدموع غمرت وجهي… ولم يعد عندي كلام يصف ما أحسست به من عميق المشاعر والتأثّر بما حصل.
ثم بدأت أدعو لها أيضًا بالخير، لأنها أدخلت السرور إلى نفسي وعلّمتني بأن الدنيا ما زال فيها أناس طيّبون وما زال الخير موجودًا فيها… وأن الأمل ما زال يعيش بيننا وينبض فينا… كان الثمن «ابتسامة فقط».