الحمد للّه ربّ العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيّدنا محمّد وعلى آله وصحبه ومن تبع هداه إلى يوم الدين.
أما بعد فإن غسل البدن وتنظيفه سُنّة من سنن النّبيّ ﷺ كلّما دعت الحاجة أو لمناسبة يُسنّ لها الاغتسال كالجمعة والعيد وغيرهما. وهناك غسل للبدن واجبٌ شرعًا فعله لأداء بعض العبادات، ومن الأمور التي تُوجب الغُسْلَ الجنابة، وكلمة الجنابة من جنب وهو أنه يجتنب بعض الأمور في حالة مخصوصة، قال الله تعالى: ﴿ وَإِن كُنتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُواْ ﴾ سورة المائدة/6، ويُقال رجل جُنُب وامرَأَة جُنُب وقوم جُنُب وَقد أجنب الرّجل إذا أصابته الجنابة.
وتحصل الجنابة بخروج المني وهو سائل يخرج من ذكر الرجل ومن فرج الأنثى، ويُميّز بعلامات منها تدفقه بشدة شيئًا فشيئًا وشعورٌ باللذة مع خروجه وفتور الشهوة بعده غالبًا وريحه حال رطوبته يشبه ريح العجين وريح بياض البيض حال جفافه، فمن خرج منه هذا سواء كان في اليقظة أو في المنام فهو جنبٌ، وكذا الجماع وهو إدخال ذكر الرجل في فرج المرأة ولو غاب رأس الذكر الذي يسمى الحشفة في فرج المرأة فهو جماع ولو لم يحصل الإنزال وكذا لو أدخل ذكره مغلّفًا بحائل فهو جماع.
ويلتحق بأحكام الجنابة من وجوب الغسل للصلاة الحيض والنفاس والولادة، فالمرأة إذا حاضت أي رأت الدم الذي يخرج من فرجها على سبيل الصحة والعادة أو نفست والنفاس هو الدم الخارج بعد الولادة وكذا لو ولدت المرأة من غير بلل لأنَّ خروج الولد منيٌّ منعقد في الأصل، فهذه الأمور لا سواها توجب على من حصلت منه الغسل وتُسمّى هذه الأمور الحدث الأكبر.
والغسل الواجب شرعًا له ركنان: النية عند ملامسة الماء لما يغسله من رأسه أو بدنه، ينوي بقلبه رفع الحدث الأكبر أو الغسل الواجب، والثاني أن يصل الماء المطهّر لكل البدن والشعر والأظفار دون استثناء مرة واحدة.
ومن أحدث حدثًا أكبر حَرُمَ عليه الصلاة ولو نافلة والطواف بالكعبة وحمل المصحف ومسّه وقراءة القرءان إلا ما كان بنية الذكر، ويحرمُ على المحدث حدثًا أكبر أيضًا القعود في المسجد أي في المكان الموقوف المخصّص للصلاة فلا يضرُّ وقوفه في حديقة المسجد أو قاعة لم تخصّص ولم توقف للصلاة بل لأمور أخرى فله أن يمكث فيها، وزيادة على هذا كله يحرم على المرأة الحائض والنفساء الصيام أثناء وجود الدم وتمكين الزوج من الجماع قبل انقطاع الدم والغسل فلا يجوز للمرأة الحائض أو النفساء أن تسمح لزوجها بجماعها أثناء وجود دم الحيض أو النفاس لقوله تعالى:
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ ﴾ سورة البقرة/222، معناه لا تجامعوهنّ. هذا فقط ما يحرم عليهن، وما شاع على ألسِنة بعض النساء أنّ بدن المرأة زمن الحيض يبقى نجسًا وأنها لا تضع يدها في طبيخ ونحوه لأنها تنجسّه فليس هذا من دين المسلمين بشىء..! بل هذا من أقاويل وخرافات اليهود. روى الإمام مسلم في صحيحه عن أنس رضي الله عنه أنَّ اليهود كانوا إذا حاضت المرأة هجروها وأخرجوها من البيت فسأل الصحابةُ النّبيّ فأنزل الله هذه الآية:
﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُواْ النِّسَآءَ فِي الْمَحِيضِ وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)﴾ سورة البقرة، وروى مسلم عن رسول الله ﷺ: «اصنعوا كل شىء إلا النّكاح» أي الجماع، أي لامسوهنَّ وكُلوا معهنَّ وناموا في فُرُشِهنَّ ولا تمتنعوا إلا عن جماعهنَّ.
وقد ضرب النّبيّ ﷺ المثل بنفسه في ذلك للمؤمنين والمؤمنات، ففي الصحيحين عن أم سلمة زوجة رسول الله ﷺ أنها قالت: بينما أنا في الخَمِيلَةِ -نوع من الثياب- إذا حِضْتُ فانسَللتُ فأخذت ثياب حيضتي فقال لي
رسول الله: «أَنَفِسْتِ؟» -أي حضتِ- قلتُ: نعم، فدعاني فاضطجعت معه في الخميلة، فانظر لفعل النّبيّ ﷺ من إدخال زوجته وهي حائض في الغطاء معه!! وفي صحيح مسلم عن عائشة أنها قالت: قال لي رسول الله ﷺ «ناوليني الخُمْرة» وهي قطعة من القماش بقدر ما يسجد عليه الشخص، فقلت: إني حائض فقال: «حيضَتُكِ ليست في يدكِ» معناه بدنكِ طاهر لا علاقة لحيضك بسائر البدن، وفي صحيح البخاري أيضًا عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: كنت أُرَجّلُ -أسَرّح- رأس رسول الله ﷺ وأنا حائض، أي كان النّبيّ وهو في المسجد يُدني رأسه من عائشة في حجرتها الملاصقة للمسجد فتُرَجّل له رأسه وهي حائض، وفي صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: «كنتُ أشرب من الإناء وأنا حائض ثم أناول النّبيّ فيضعُ فاهُ على موضع فيَّ» أي كان ﷺ يأخذ من يدها الإناء وهي في الحيض فيضع فمهُ على الموضع الذي وضعت فمَهَا عليه فيشرب، وعن عائشة أيضًا أنها قالت: كان رسول الله ﷺ يتكئُ في حجري وأنا حائض فيقرأ القرءان. وفي هذه الأحاديث أوضح الأدلة على أن المرأة الحائض لها مزاولة كل الأعمال إلا ما ورد في الشرع الامتناع عنه.
والله تعالى أعلم وأحكم.