تُكمل الكاتبة قصّتها قائلة: اهتممت أنا وزوجي في أيام حملي الأولى بالسؤال عن التعاليم التي حثّ عليها الشرع عند الولادة، ومثلما خصّصنا وقتًا لشراء ما يحتاجه الطفل واستشارة الطبيبة، خصّصنا وقتًا لسؤال أهل العلم عن تلك الآداب النبويّة. فقد ورد في الشريعة أساليب للتعامل مع الأطفال منذ ولادتهم إلى أن يكبروا، وشرع الإسلام عدة آداب مستحبة للاحتفاء بقدوم المولود ضمن قيم تربوية وأخلاق إسلامية سامية. 

في الوقت الذي كانت فيه عبارات شكر الله وحمده تملأ الغرفة، فعلتُ أُولى هذه السُّنَن وهي الأذان في أُذن المولود اليمنى، طلبت من القابلة أن ترفع ابنتي إلى محاذاة فمي وقلت بصوت خفيض: «الله أكبر الله أكبر، الله أكبر الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن
لا إله إلا الله، أشهد أن محمّدًا رسول الله، أشهد أنّ محمّدًا رسول الله، حيّ على الصلاة حيّ على الصلاة، حيّ على الفلاح حيّ على الفلاح،
الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله» ثم قَلَبتها إلى الجهة اليسرى وأقمتُ في أذنها اليسرى فقلت: «الله أكبر الله أكبر أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمّدًا رسول الله حيّ على الصلاة حيّ على الفلاح قد قامت الصلاة قد قامت الصلاة
الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله» ثم فعلتُ مثل ذلك لابني، وذلك ليكون إعلام المولود بالتوحيد أول ما يقرع سمعه عند قدومه إلى الدنيا كما يلقن عند خروجه منها، وكيف لا أفعل والنبيّ ﷺ فعل ذلك للحسن والحسين عندما ولدتهما السيّدة فاطمة، ولا شكّ في أن هذه السنّة التي أرشدنا إليها النبيّ ﷺ تدل على مدى اهتمام الإسلام بغرس عقيدة التوحيد في النفوس ومطاردة الشيطان فالشيطان يُدبِر عند سماع الأذان.

مَنّ اللهُ عليّ بقابلة حنون، وإلى جانب كونها ماهرة رحبة الصدر متفهّمة راعت رغبتي في أن لا ينكشف من العورة عند الولادة إلا قدر الحاجة، ساعدتني كثيرًا حتى في تطبيق السُّنن، وبعد الأذان والإقامة طلبت منها أن تُحضر لي تمرة أدخلتُها معي إلى الغرفة قبل الولادة فشققتها ومضغتُها ثم أخذتُ منها بإصبعي شيئًا قليلًا ودلّكت به حنكيهما حتى ينزل إلى جوفهما شىء منها، والممرضات ينظرن إليّ بحَيْرة وكأنهنّ يقلْنَ ماذا تفعل؟، ذكرت واحدة منهن أن الطفل يحتاج إلى سكر الجلوكوز لأن مستوى السكر بالنسبة للمولودين يكون منخفضًا فصارت العادة في المستشفيات أن يعطوه للمولود، وسألتني كيف عرفت أن التمر خير مصدر لهذا؟ بيّنت لها أن الذي فعلته بالتمرة اسمه التحنيك وهو سنّة، فإنّ الرسول فعله للكثير كابن أبي طلحة، وأنّ الله تعالى أوحى إلى نبيّه أمورًا ليرشدنا ويحثّنا على فعلها والله أعلم بمصالح العباد فهو خالق الإنسان وهو العالم بما يصلحه وبما يفسده.

كل شىء حصل معي زاد في قلبي اليقين بعظمة الله وكمال قدرته، فالرسول هو الذي أخبرنا بالمراحل التي يمرّ بها الجنين في رحم أمه منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام، فقال رسول الله ﷺ وهو الصادق المصدوق: «إنّ أحدكم يُجمع خلقُه في بطن أمه أربعين يومًا، ثم يكون في ذلك علقة مثل ذلك ثم يكون في ذلك مضغة مثل ذلك ثم يُرسل المَلَكُ فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات بكَتْبِ رزقه وأجله وعمله وشقي أو سعيد» رواه البخاري، تفكّرت مليًّا في هذا الحديث أثناء حملي، كيف أن الله جعل النطفة البيضاء علقة حمراء ثم قسّم أجزاءها وهي متساوية متشابهة إلى عظام وأعصاب وعروق، فدوّر الرأس وشقّ السمع والبصر والأنف والفم، ثم مدّ اليد والرجل وجعل في أطرافها أصابع وفي كل إصبع أنامل، وركّب القلب والمعدة والكبد والطحال والرئة والمثانة والأمعاء، كل على شكل ومقدار مخصوصين… سبحانه ما أعظم شأنه، خلق فسوّى.

بعدما أخذوا طفليَّ لإجراء بعض الفحوصات وختان الولد أحسست بالبرد يسري في جسدي، أتساءل، هل حقًّا خرج من داخلي إنسان؟ هل انتهى كل ما عايشته طوال تسعة شهور؟ أشهر الغموض انتهت بحقيقة لا جدال فيها… إنسان مثلي، خرج مني. قطعت الممرضة تيار الأسئلة وجرّت سريري لتأخذني إلى غرفتي الخاصة وأخبرتني أن حالتنا جيدة وأننا سنخرج في غضون ساعات على أن نبقى تحت رعاية القابلة في المنزل.

مرّت دقائق وأحضروا لي طفليَّ، شعرتُ بقلبي يذوب، صرت أتأمّلهما وأقلّب نظري فيهما: أعضائهما الصغيرة، وجههما المنتفخ، عينيهما الصغيرتين، شعرهما الملتصق برأسيهما خطوطًا، وطيّات جلدهما الناعم، وأخذت نظراتي تغرقهما بمشاعر وأشواق اختزنتها لهما في قلبي تسعة أشهر. مددتُ يدي المرتجفة ووضعت إصبعي في قبضتيهما الصغيرتين، شدّا على إصبعي كأنهما يخاطبانني بلغة الجسد، ملمسهما بدا غريبًا عليّ… يا له من شعور يحار القلب في وصفه.

يوم مليء بالسنن
https://manarulhudamag.com/236_73

مشقة وصبر
https://manarulhudamag.com/236_74

كالإناء الفارغ
https://manarulhudamag.com/236_75

سبع سنين قمرية
https://manarulhudamag.com/236_76

طفولة ثم ماذا بعد؟
https://manarulhudamag.com/236_77

ماذا أقول لولدي
https://manarulhudamag.com/236_78

بقدر الجد تكتسب المعالي
https://manarulhudamag.com/236_79

مودة ورحمة
https://manarulhudamag.com/236_710

فقد الأحبة ألم متجدد
https://manarulhudamag.com/236_711

غصة وفراق
https://manarulhudamag.com/236_712

سنن وإرشادات
https://manarulhudamag.com/236_713