تُكمل الكاتبة قصّتها قائلة: لم أعرف كيف ستكون حياتي. عندما تتحدث الأمهات عن البكاء المستمر، عن النوم المتقطع أو حتى عدم النوم أصلًا، عن تغيير الثياب «والحفاض» للمرة العاشرة في اليوم، لم أتمكّن من فهم الشعور الحقيقي إلى أن حصل معي كل ذلك. عدت إلى المنزل مع فردين جديدين ومعنويات عالية لكن مع مرور الوقت تدهورت حالتي… كان عليّ أن أواجه مخاضًا من نوع آخر، لم يكن عندي تجربة سابقة في كيفية الاعتناء بطفل واحد طوال اليوم، فكيف باثنين! عليّ أن أقف صامدة أمام «اكتئاب ما بعد الولادة» مستعينة ببعض الأذكار التي تُقال عند استصعاب الأمر وشدّته من نحو: «اللّهمّ لا سهلَ إلّا ما جعلتَه سهلًا وأنت تجعلُ الحَزْنَ إذا شئتَ سهلًا» و«لا إله إلا الله الحليمُ الكريمُ سبحانه وتبارك اللهُ ربُّ العرشِ العظيم والحمدُ للّه ربّ العالمين». ومما ساعدني أيضًا توافد الأقارب والأحباب لزيارتي، الكل يحنو عليّ ويسألني عن تجربتي وعن حال طفليّ. وكم كنت أفرح عندما أسمعهم يقولون: «اللّهمّ بارك بهما ولا تضرّهما» أو «بسم الله ما شاء الله» وذلك لأن رسول الله ﷺ قال: «إذا رأى أحدُكم من نفسِه وأخيه ما يُعجبه فليَدْعُ بالبركة فإنّ العينَ حقٌّ» رواه الحاكم في المستدرك.
وأخيرًا جاء اليوم الذي فكّرت في تفاصيله مليًّا، انتظرته أنا وزوجي بكل شوق… اليوم السابع، اليوم المليء بالسُّنن، بأيّ سُنّةٍ نبدأ؟ اقترح زوجي أن نفتتح يومنا بتسمية طِفلينا. كثير من الأقارب اقترحوا أسماء، منهم من كان اقتراحه أن نسمّي المولود باسمه ومنهم من أشار علينا بأن نسمّيه اسمًا قليل الحروف يتماشى مع العصر، أمّا أمي وأم زوجي فكان رأيهما أننا نفكر عبثًا فمن وجهة نظرهما أننا عندما ننظر إلى المولود سيتجلّى لنا الاسم وسيأتي بلا تفكير، كثرت الآراء، والأمر محير، وفعلًا حصل ما قالته الوالدتان العزيزتان، صاحبتا الخبرة والتجارب.
«أسميتُكِ جويرية، وأسميتُكَ حمزة» قال زوجي بصوت مرتجف مع لمعة في عينيه تحاكي ما في عينيّ. في هذه الأثناء دقّ جرس المنزل فذهب زوجي وفتح الباب فإذا هو الجزّار الذي وكّلناه بالعقيقة، وكّلناه بذبح ثلاث شياهٍ، اثنتين عن حمزة وواحدة عن جويرية إظهارًا للبشر والنعمة ونشرًا للنسب، ونبّهناه أن ينتقيَ شياهًا أتمّت السَّنة، جيّدة، سليمة من العيوب التي تُنقِص من لحمها أو شحمها وأن لا يكسر عظمها تفاؤلًا بسلامة أعضاء طفليَّ… بفضل الله كل الأمور تسير جيدًا إلى الآن.
ومع مجيء أمي تزايد فرحي وتلاشى قلقي، أطلّت التي أسلّمها أموري وأنا مرتاحة البال، أتت لتساعدني في طبخ العقيقة، وفي طريقها إلينا دعت الأقارب ومن تعرفه من الفقراء للطعام، الله يجزيها خيرًا.
انهمكنا في تحضير الطعام وطبخنا اللحم مع الزبيب فالعقيقة يُسَنُّ أن تطبخ بحُلوٍ تفاؤلًا بحلاوة أخلاق الولد، وتركنا رِجْل العقيقة نيئة لنعطيها للقابلة ثم استأذنتُ من أمّي وتوجّهت مع زوجي إلى حلّاق ماهر. في الطريق صرت أناديهما كلّما بدا لي، مع أنني أعرف أنهما لن يردّا جوابًا… ما أجمل اسميهما وكم يليقان بهما! كان الحلّاق بانتظارنا، أمسك الموسى وبدأ بحلاقة شعر حمزة بتأنّ وهو نائم، لا يعرف ماذا يُفعَل به، وعندما حان دور جُوَيرية تردّدتُ قليلًا، فذكّرني زوجي بالعهد الذي أخذته لتطبيق السنن وأنّ الله بعث نبيّنا ليبيّن لنا مصالح ديننا ودنيانا وهو الذي حثّنا على ذلك فلِنْتُ وسلّمتُه جويرية، وبعد الانتهاء جمعنا شعرهما، كلٌّ في خرقة وأخذناهما معنا.
تغيّر شكلهما كثيرًا وخاصة جويرية، إن شاء الله عندما أضع لها حلقًا ستبدو أكثر أنوثة… ثم في طريق العودة قصدنا محل المجوهرات وزِنّا الشعر وأخذنا بزنته قطعة من الفضة لنتصدّق بها، كنا نأمل أن نتصدّق بزنته ذهبًا لكن هذا الذي قدرنا عليه.
عندما دخلنا إلى البيت فاحت رائحة الطعام ووجدت أمي تنتظرنا على الباب لترى كيف أصبح شكل طفليّ، ارتسمت بسمة على وجهها مع حيرة، لم تعد تميّز من حمزة ومن جويرية؟ كان يظهر عليها الفرح جليًّا في ذلك اليوم، وازدادت فرحًا عندما جاء من دعتهم وأثنوا على طعامها. عمَّ الفرحُ البيتَ، هنا مجموعة تساعدنا في تنظيف الطاولات وهنا مجموعة ملتمّة حول جويرية وحمزة تلاعبهما، وأخرى تتناقش في تجربتها مع الولادة وهناك الكثير من الهدايا.
سنّة نبويّة واحدة أظهرنا بفعلها الاستبشار بنعمة الله وفتحت لنا أبواب الفرحة وقوّت العلاقات الاجتماعية في الأسرة وساهمت في إعانة الفقراء وتطييب قلوبهم، فكيف إذا تفكّرنا بباقي السنن التي حثّنا عليها الشرع؟
مشقة وصبر
https://manarulhudamag.com/236_74
كالإناء الفارغ
https://manarulhudamag.com/236_75
سبع سنين قمرية
https://manarulhudamag.com/236_76
طفولة ثم ماذا بعد؟
https://manarulhudamag.com/236_77
ماذا أقول لولدي
https://manarulhudamag.com/236_78
بقدر الجد تكتسب المعالي
https://manarulhudamag.com/236_79
مودة ورحمة
https://manarulhudamag.com/236_710
فقد الأحبة ألم متجدد
https://manarulhudamag.com/236_711
غصة وفراق
https://manarulhudamag.com/236_712
سنن وإرشادات
https://manarulhudamag.com/236_713