تُكمل الكاتبة قصّتها قائلة: مرّت الأيام والأسابيع والأشهر، اعتدت على حياتي الجديدة وصرت أكثر خبرة وأشدّ صبرًا واكتسبت مهارة إنجاز أمرين في وقت واحد، حتى إن حمزة وجويرية صارا أكثر مرحًا وتسلية وهدوءًا. كان الشهر الأول الأشدّ عليّ من كلّ النواحي، فأنا في خضمّ تجربة جديدة، كل ما فيها جديد: جرح الولادة الحديث، كمية الفوضى في كل الغرف، سهر الليالي، بكاء طفلين، إرضاعهما، غسل ثيابهما… كل المهام كانت مزدوجة، تيقّنت أنه لا بد من أن أنظّم الوقت وأن أدرّب طفليّ منذ الصغر على بعض الأمور الروتينيّة من أجل تخفيف الضغوطات. أخذت وقتًا حتى تأقلمت… حتى إنني ألصقت على جدار الغرف ورقة لأتذكر النيّة للّه في كل عمل حسن أفعله، فأنا بكل الأحوال أسهر وأطعم وأرضع وأتعب فلمَ لا أجعل هذا التعب وسيلة لكسب الثواب؟ هذه الطريقة جعلتني أَصبِرُ لأنني كلّما شعرت بالغضب والضيق أتذكر أنني إذا صبرت أنال أجرًا، وجدتها فكرة ناجحة جدًّا. 

الكل كان يسأل كيف نستطيع التكيّف وتدبّر الأمور، كنت محظوظة بوجود أمي وأم زوجي بجانبي كلّما احتجتهما، وزوجي كان يساعدني، فهو والحمد للّه يرغب كثيرًا مشاركتي في العناية بالأولاد، ودائمًا يردد قوله تعالى:
﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَىسورة المائدة/2، ما كان يرى أن جويرية وحمزة مجرد عدد زائد في الأسرة وأن كل المطلوب منه هو الإنفاق المالي، بل كان يرجو كرجائي أن نتعاون في تربيتهما تربية صالحة وأن نسعى جاهدين لجعلهما طفلين مميّزين بغرس المفاهيم الإسلامية فيهما ليصيرا صالحين نافعين للمسلمين، وهذا يحتاج إلى جهد شديد.

ومع ما كنت أجده من المشقة في الرضاع وخاصة في الليل إلا أنني لم أتوقف عن إرضاعهما إلا بعد أن أتمّا سنتين قمريتين فأنا أعرف أهمية لبن الأم بالنسبة للولد وأنه أصلح وأوفق له من غيره، والله تعالى قال:
﴿ وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَسورة البقرة/233، وقال تعالى:
﴿ وَوَصَّيْنَا الإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِسورة الأحقاف/15، والله هو أحكم الحاكمين، حتى إنني حرصت بعد الولادة على إرضاعهما اللبأ وهو اللبن أول الولادة ومدته يسيرة بعدما أصرّت القابلة على ذلك لاحتوائه على قيمة غذائية عالية ومواد تقوّي مناعة الطفل، ثم بعد مدة علمت أن علماء الإسلام نصّوا على أهميته قديمًا قبل تطور الطب.

ارتضعت رحمة -ابنة أخ زوجي- مني بعدما ماتت أمّها، تردّدت في البداية لظنّي أنه أمر سيُتعبني وخاصة أن عندي توأمين، لكنّ شفقتي عليها جعلتني أسارع إلى الاستفسار عن شروط الرضاع ووجدت الأمر سهلًا فإنه يكفي وصول اللبن إلى جوف الطفل الذي لم يبلغ سنتين وكون الرضاع خمس مرات يقينًا، فتشاورنا أنا وزوجي وشجّعني على إرضاعها وبذلك نكون صرنا أبًا وأمًّا لطفل ثالث، وصارت رحمة أختًا لحمزة وجويرية، فلا يجوز لحمزة أن يتزوّجها كما أنه لا يجوز أن يتزوّج أخته جويرية لحديث الرسول: «يحرُم مِن الرَّضاعِ ما يحرمُ من النَّسَبِ» رواه البخاري.

بعد مرور سنتين تغيّر طفلاي وتغيّرت معهما أشياء كثيرة، حتى إن طريقة تعبيرهما عمّا في داخلهما اختلفت وصارا يفهمان بعض الأمور، يعرفان موعد مجيء والدهما من العمل فيركضان إلى الباب عند سماع الجرس ويستقبلانه بمعانقة دافئة تحمله على الجلوس معهما وملاعبتهما حتى لو كان منهكًا. وأنا صرت أشد حذرًا، فطفلاي بدءا بالحبو والمشي، رفعت الأشياء الزجاجية والثقيلة عن الطاولات وصرت أربط الخزائن حتى لا يفتحاها وأبعدهما عن الأشياء الكهربائية وألاحقهما من هنا إلى هناك لإطعامهما، وتعلّمت أنه إذا كان الطفل كثير الحركة لا يهدأ يؤذّن في أذنه اليمنى وتُقرأ الإقامة في اليسرى ثم يُهمس في أذنه اليمنى قول الله تعالى: ﴿ قُلْ ءاللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59)سورة يونس، فصرت أفعل ذلك، وكنت قبلُ إذا بال حمزة على الأرض أو الفراش أنتظر حتى يجفّ أو أعصره عصرًا قويًّا بحيث لا تبقى رطوبة تنفصل ثم أرش الماء رشًّا وأعمّ المحلَّ بلا سيلان، فقد ورد في الشرع أنّ الصبيّ الذي لم يتمّ سنتين ولم يأكل شيئًا يغذيه إلا اللبن يكفي فيما تنجّس ببوله أن يُغمر بالماء بلا سيلان إذا زالت العين والأوصاف، أما بول جويرية فليس له نفس الحكم بل كنت أزيل عين النجاسة أولًا ثم أصب الماء وأجريه حتى يسيل على الموضع المتنجّس، وبعد السنتين صار حكم بول حمزة كحكم بول جويرية.

كنت أنا وزوجي نسوّي بينهما في العطايا كما أمرنا الرسول ﷺ فإذا جلبنا لأحدهما هدية جلبنا للآخر مثلها، وإذا قبّلنا هذا نُقبّل ذاك.. وهذه من التعاليم الإسلامية التي ساعدتنا في التخفيف من الغيرة التي كثيرًا ما تحصل، فالحمد للّه على إنعامه علينا بمن علّمنا هذه المعلومات الدينيّة التي يُحتاج إليها في أي وقت، وجزاه الله عنّا كلّ خير.

كالإناء الفارغ
https://manarulhudamag.com/236_75

سبع سنين قمرية
https://manarulhudamag.com/236_76

طفولة ثم ماذا بعد؟
https://manarulhudamag.com/236_77

ماذا أقول لولدي
https://manarulhudamag.com/236_78

بقدر الجد تكتسب المعالي
https://manarulhudamag.com/236_79

مودة ورحمة
https://manarulhudamag.com/236_710

فقد الأحبة ألم متجدد
https://manarulhudamag.com/236_711

غصة وفراق
https://manarulhudamag.com/236_712

سنن وإرشادات
https://manarulhudamag.com/236_713