تُكمل الكاتبة قصّتها قائلة: معلوم لنا أن من مقاصد طلب البنين والبنات كونهم مصدر سعادة وبهجة وقرة عين للإنسان، بهم تحلو الحياة ويطيب العيش وعليهم تعقد الآمال، كنت أنا وزوجي نرى في ولدينا أمل المستقبل والعون والسند عند الكبر ونعلم أن كل هذا منوط بحُسن التربية وسلامة إعداد الولد لمواجهة شؤون العيش ومحاربة النفس والشيطان بحيث يكون عنصرًا فعّالًا بنّاء يعود بالخير والإحسان على والديه وعلى المجتمع والمسلمين عمومًا. وهذا يحتاج إلى جهد فالمربي فلّاح يقلع الشوك ويُخرج النباتات الأجنبية من بين الزرع ليَحسُن نباتُه ويكمل ريعه ونماؤه. 

والولد أمانة عند والديه لذلك أردنا أن نسلك طريقًا معتدلًا لتربية طفلينا، لا أن نفرط في القسوة فنتجرّد من الشفقة والحنان، ولا أن نفرط في التدليل فنعطيهما كل ما يريدان. 

مخطئ من يعتقد أن مرحلة الطفولة ليست ذات تأثير كبير، بل إنّ وقت الصغر وقت النشاط والفراغ وعدم الانشغال بالدنيا ومشاغلها، فقلب الطفل قابل لكل ما نُقش فيه ومائل إلى كل ما يُمال إليه، فإن عُوّد الخير وعُلّمه نشأ عليه وسعد في الدنيا والآخرة وشاركه في ثوابه أبواه، وإن عُوّد الشر وأُهمل إهمال البهائم شقي وهلك. والطفل في الصغر يكون كالإناء الفارغ فعلينا أن نغتنم هذا الوقت لنصب في الإناء كل نافع ومفيد حتى يمتلئ به ولا يقبل غيره وقد قيل: العلم في الصغر كالنقش في الحجر، ولأجل هذا كنت أردّد على مسامع طفلي آيات من القرءان وما يعلّق قلبيهما بحبّ الله وحبّ رسوله وأقوالًا تتعلق بتوحيد الله وتنزيهه عن مشابهة المخلوقين… وكنت أنا وزوجي كثيرًا ما نتعاون على تحفيظهما عبارات دينيّة وأقوالًا مأثورة، فإنهما وإن لم يعرفا معناها الآن إلا أنهما عندما يكبران سيجدانها محفوظة منقوشة في قلبيهما وستتبيّن لهما المعاني شيئًا فشيئًا، لأعلّمهما بالحال والمقال، وعندما يكذب أحدهما أقول له من باب التعليم وإن كان في صغره لا يحرم عليه شىء: «الكذب حرام، المسلم لا يكذب»، بعد فترة صار إذا كذب أحدهما يقول له الآخر مقلّدًا إياي: «الكذب حرام»، وإذا ضرب أحدهما الآخر يقول له: «الضرب بغير حق حرام»، وجدت نتيجة ذلك حتى وهم في هذا العمر المبكر. يعرفان أنهما لا يستطيعان أن يشتريا من الدكان في هذا العمر وأنه لا ينبغي أن يأخذا أيّ شىء بلا إذن صاحبه وأن السرقة حرام ويسرعان لمعاونة المحتاجين وصلة الرحم والوفاء بالوعد ويعيان أنه ينبغي احترام وتوقير الكبير وعدم رفع الصوت عليه، وأردد على مسامعهما حديث: «ليس منّا -أي ليس على طريقتنا الكاملة- من لم يوقّرْ كبيرَنا ويرحمْ صغيرَنا» رواه أحمد، زرعت فيهما الإيثار والعفو، بعكس كثير من الناس الذين يقولون لأولادهم: «الذي يضربك اضربه والذي يسبّك سبّه»، وكنت كل يوم بعد المغرب أجلسهما وأقرأ أمامهما التحصين ليعتادا على شَغل هذا الوقت بذلك، وعندما نصلي أقول لهما: «انظرا كيف نصلي» ولا أقول لها: «صلّيا»، وعلّمتهما الاستنجاء، وكل أسبوع يصحبهما والدهما إلى المقبرة وهناك يعلّمهما قراءة الفاتحة وزيارة الأقارب الذين سبقونا بالإيمان.

وقبل الأكل أطلب منهما أن يقولوا «بسم الله»، وبعد الأكل «الحمد للّه»، وأنبّههما أن الأكل يكون باليد اليمنى، وأن يأكلا من الجهة التي تليهما، وأن لا يبادرا إلى الطعام قبل غيرهما، كل هذه الآداب سمعاها مرارًا وتكرارًا حتى قبل أن يُتمّا الثلاث سنوات، ولهذا اعتادا عليها وهما في سن صغير، فالطفل إن نهيته عن أمر قد لا يدري لماذا تنهاه لكنه يتذكر أنك نهيته عن كذا فيتركه، فسيّدنا الحسن أخذ من تمر الصدقة وهو صغير ووضعها في فمه فقال له الرسول ﷺ: «كِخ كِخ ارمِ بها أما علمتَ أنّا لا نأكلُ الصدقة» رواه مسلم، وقال لعمر بن أبي سلمة وهو غلام في حِجر الرسول ﷺ وكانت يده تطيش في الصفحة التي فيها الطعام ويأكلون منها: «يا غلام سمّ الله وكُل بيمينك وكُل مما يليك» رواه البخاري.

وصرت أعوّدهما على ضبط رغباتهما منذ الصغر، ليس كل شىء يريانه يُعطى لهما، ولا كل ما يشتهيانه من الطعام يطبخ لهما، نطعمهما مما وجد في البيت بلا تخصيص، وكنا نحفظهما عن الصبيان الذين عُوّدوا التنعم والرفاهية ولبس الثياب الفاخرة، وأعودهما لبس الثياب البيض فإنها من خير الثياب. مخطئ من يظن أن التربية مقتصرة على تأمين الطعام اللذيذ والشراب الهنيء واللباس الفاخر بلا مبالاة لتهذيب الأخلاق.

مخطئ من يظن أنّ المدرسة هي التي تتحمل كامل هذه المسؤولية فيتهاون ويتكاسل عن تعليم ولده منذ الصغر ويتّكل على المدرسة بعد الكبر، لا شك في أنّ المدرسة لها تأثير في بناء شخصية الطفل وأخلاقه، لكنها ينبغي أن تكون مساعدة في التربية وليست أساسًا فيها، ولأجل ذلك اخترنا لطفلينا مدرسة موثوقة تهتمّ بتدريس العلوم الدينية وتعتني بالعلوم الكونية، معلّموها عندهم مخافة من الله لا يدسون السّمّ في الدسم حتى لا يضيع تعبنا الذي تعبناه في السنوات الثلاث سدى. فالصبي إن أُهمِل في ابتداء نشوئه خرج في الأغلب رديء الأخلاق، لذلك لا بد من أن يحفظ عن جميع ذلك بحُسن التأديب.

سبع سنين قمرية
https://manarulhudamag.com/236_76

طفولة ثم ماذا بعد؟
https://manarulhudamag.com/236_77

ماذا أقول لولدي
https://manarulhudamag.com/236_78

بقدر الجد تكتسب المعالي
https://manarulhudamag.com/236_79

مودة ورحمة
https://manarulhudamag.com/236_710

فقد الأحبة ألم متجدد
https://manarulhudamag.com/236_711

غصة وفراق
https://manarulhudamag.com/236_712

سنن وإرشادات
https://manarulhudamag.com/236_713